الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«الجرن» وحصاد القمح

«الجرن» وحصاد القمح

تهل علينا فى مثل هذا التوقيت من كل عام روائح الزمن الجميل فى موسم حصاد القمح.. تمر ذكريات الماضى بعبيرها ولحظاتها الطيبة عندما كنا نعيش أسعد سنوات العمر.. نجلس فى «الجرن» نشاهد «النورج» أثناء عملية حصاد القمح.. كان الحصاد صعبًا للغاية قبل استخدام الآلات والميكنة الحديثة لفصل القمح عن سنابله اليابسة. 



الجرن عبارة عن قطعة مستديرة على شكل دائرة يتم وضع القمح بأعواده كاملة ثم نأتى «بالنورج» المصنوع من نوعية جيدة من الخشب الأحمر الزان القادر على تحمل ثلاثة من الرجال يجلسون فوقه إذا لزم الأمر وله عجلات حديدية تدور من المغرب وحتى فجر اليوم الثانى وتجره الأبقار القوية حتى يتم دريس الأعواد والسنابل فيخرج إلينا «القمح والتبن» وبعد ذلك تتم عملية التدرية بآلة اسمها المدراة أو المذراة، وهى آلة تشبه شوكة الطعام ويقوم الفلاح برفح التبن بها عاليًا فى الهواء حتى يتم فصل التبن عن القمح.

فى هذا السكون من الليل وعندما يكون القمر بدرًا فى ليلة الرابع عشر من الشهر العربى وعادة ما يكون الحصاد فى مايو سنويًا يسود السكون والهدوء معظم القرى المصرية فى ذلك التوقيت من كل عام منذ ما يقرب من ٤٠ عامًا على الأقل.. يدور النورج ويبدأ الحصاد وتنتشر رائحة الخير ويخرج القمح من سنابله الذهبية ليستقر فى أرض الجرن ويبدأ الفلاح الطيب استخدام «المدراة» لفصل «غلة» الحصاد ويبدأ تشوينها لتستقر فى صوامع من الطين اللبن فوق «الدار» لاستخدام خزين القمح طوال العام.. لم يكن يعرف الفلاح أو ست الدار العيش الفينو والعيش الآلى أو حتى عيش الفرن كما هو الحال اليوم فى معظم البيوت المصرية فى الريف قبل الحضر، وكان من العيب أن يذهب الفلاح إلى فرنة العيش ليقف فى الطابور ليحصل على عشرة أو عشرين رغيفًا من الخبز. 

كان الخير وفيرًا وكانت قلوب الناس مثل «اللبن الحليب».. كان الفلاح قبل تخزين محصول القمح أو الفاصوليا أو البطاطس يوزع على جيرانه وأقاربه من باب الهدايا والمحبة إلى جانب زكاة الزروع وبزيادة عن المقرر فى الفقه وأصول الشريعة.. كانت الأمراض قليلة الانتشار وكانت الناس فى صحة جيدة رغم أنهم كانوا يشربون فى بعض الأحيان من ماء نهر النيل ويستخدمونها فى عمل الشاى وتسوية الطعام. 

الآن حلت الآلات الزراعية الحديثة مكان النورج وأصبحت «الدرّاسة» تقوم بعمل النورج فى بضع ساعات قليلة ولكنّ الخير قل.. وتغيرت الأحوال وأصبح الفلاح وست الدار تذهب إلى فرنة العيش لتحصل يوميًا على مائة رغيف تأكل نصفها هى وأسرتها وتلقى بالباقى إلى الطيور والبهائم، وأصبحنا نستورد القمح بالعملة الصعبة، ولم يعد الزمن كما كان فى الماضى الجميل.. زمن «الجرن والنورج» وليالى الحصاد الجميلة والذكريات التى لا تزال فى عقول وقلوب جيل الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. 

القمح سلعة

استراتيجية مهمة جدًا يعتمد عليها المصريون ويجب أن يتفهم الفلاح أن الدولة تعتمد عليه فى عملية شراء الغلال، وأن الوطن فى أمس الحاجة لهذه السلعة خاصة بعد الأحداث العالمية والحرب الروسية - الأوكرانية. 

الدولة المصرية فى عصر الجمهورية الجديدة تحاول زيادة الرقعة الزراعية وزيادة الأرض المنزرعة بالقمح حتى يتم سد الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك ولدينا أمل بإذن الله أن يأتى يوم على هذا الوطن ويحدث اكتفاء ذاتي من محصول القمح وتعود مصر إلى عصرها الذهبى سلة الغذاء فى العالم. 

نحن فى ظروف صعبة للغاية وما نراه حولنا وفى العالم يؤكد ذلك.. نريد العودة إلى الزمن الجميل وإلى الجرن والنورج وموسم حصاد الذهب الأصفر الذى اشتهرت به مصر على مر الأزمان فكانت بحق أرض الخير والنماء.

تحيا مصر..