السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«رحـــــم» رؤيـة كونيـة لجسـد المـرأة المحرم بعالم الرقص

 ارتبط الرقص المعاصر فى خيال المشاهد بالتعقيد؛ فقد يقتصر جمهوره على صفوة المثقفين باعتبارهم الطبقة الاجتماعية الأرفع ثقافة والأقدر على استيعاب ما التبس على المشاهد العادى من رسائل ضمنية مستترة ربما لا يستطيع ترجمتها وفك شفراتها سوى رواد هذا الفن؛ لما يقدمه أصحابه وصناعه من حركات راقصة تحمل متعة جمالية وبصرية وأحيانا أفكارا فلسفية.



 اشتهر الرقص المعاصر بأنه فن يحمل أبعادا فلسفية أعمق من خيال المشاهد حتى أصبح البعض يعتبره فن غير مفهوم التصقت به هذه السمعة التى استغلها بعض ممارسى هذا الفن لتقديم أعمال فنية راقصة لا تحمل جماليات فى التصميم الحركى أو حتى متعة فنية أو فكرة من ورائها وبالتالى يقع فى فخ الغموض والالتفاف حول تقديم الرقص المعاصر دون تقديم رؤية واضحة من ورائه؛ فى ظل هذا الجدل المستمر وحالة الالتفاف والغموض التى تحيط هذا الفن تلعب دائما الفنانة شيماء شكرى بأعمالها فى مساحة خارج المضمون؛ اتخذت بهدوء وتأن لنفسها ولفنها جانبا آخر يخصها وحدها بمجال الرقص المعاصر؛ دائما ما تمتلك فكرة ورؤية واضحة محددة تتجه إليها دون الالتفاف حولها؛ فى ظل ما يقدمه البعض من أعمال مشوشة فكريا تلعب شيماء على النقيض بمفهمومها حول الرقص والحياة لتتخذ مسارا مغايرا عن الكثيرين.

 تنتمى شيماء شكرى إلى تيار الرقص المعاصر المستقل؛ سبق وأن قدمت أكثر من عمل فنى مميز فى كل مرة تقدم فكرة جديدة بتصميم حركى جديد لا يشبه نظيره فى عمل آخر؛ فلكل عمل ظروفه والهيئة الفنية التى يصمم عليها؛ كان آخر وأنجح ما قدمته مؤخرا «عركة» مع الراقص محمد فؤاد فازت فيه بجائزة أفضل ممثلة بمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى؛ واليوم تقدم على خشبة مسرح الفلكى عرض «رحم» الذى تطرح فيه نفسها بشكل ورؤية جديدة مغايرة تماما عما سبق وأن قدمته من قبل.

فى «رحم» تطرح شيماء فلسفة جسد بالكامل؛ جسد المرأة الذى لايزال يحتاج رخصة للعبور وممارسة الحياة بشكل طبيعى؛ هذا الجسد الذى ترتبط طبيعته بطبيعة دورة الحياة والأرض فهو منبع زراعة الإنسان وولادته؛ فهذا الرحم هو من ضمنا جميعا قبل أن نأتى إلى هذه الحياة خرجت منه صرخة أنفاسنا الأولى؛ لا تمنح تلك المجتمعات هذا الجسد التقدير الذى يستحقه بينما تحقر من شأنه وتربطه دائما بالمنع والتجريم؛ تجريمه لو رقص ففى الرقص وحركة الجسد ما يشين فى عرف المجتمعات.

من تلك المعانى الإنسانية الرفيعة وبحساسية فنية شديدة رقصت شيماء شكرى بعرض «رحم» لتمزج فيه بين الرقص ونبض الرحم الحامل لسر الحياة ومنبعها؛ اهتزت الأرض وتفجرت منها الحياة والخصوبة وكذلك اهتز جسد المرأة برعشة الجماع ثم احتوت بأحشائها جسد إنسان آخر ومنحها الكون نفخة حياة أخرى لتلد إنسانا جديدا لا يفصله عن هذا الرحم سوى يوم الولادة وقطع الحبل السرى بين الأم والابن الذى يستنشق نسائم وانفاس حياته الأولى بعد اندفاعه وانطلاقه من هذا الرحم للعالم الخارجى.

ضمنت شكرى هذه الأفكار وهذه الرؤية الكونية لجسد المرأة الذى يتعرض للاغتصاب والازدراء والعار لكونه جسد أنثى؛ دائما ما يوضع تحت وصاية من الرقابة الاجتماعية غير مسموح له بممارسة الحياة بشكل طبيعى فى حين أنه منبع هذه الحياة يضمنا جميعا بداخله تسعة أشهر لنعيش فيه دورة كاملة «نفعل دون أن نفعل».. تلك أحد العبارات التى ترددت فى تسجيل صوتى بالعرض الذى احتوى مجموعة من الجمل والعبارات المتقطعة التى تستعرض خلالها شكرى رؤيتها عن الرحم والحياة؛ عبارات إنجليزية وأحيانا عربية تشير المصممة والمخرجة إلى أفكارها المتنثارة حول هذا الرحم الذى جاء مسماه مرادفا للرحمة والرحمن والرحيم.. الذى منحنا الحياة ثم ارتباط هذا المعنى بجسد المرأة الممنوع من ممارسة الحياة!

   فى مساحة محددة على خشبة مسرح الفلكى رسمت برواز ووضعت فيه نفسها؛ ارتدت ملابس أقرب لشكل الإنسان فى العصور البدائية الأولى وبدأت فى تقديم أشكال راقصة مع الإلتفاف بحركة دائرية مع حركة الكون؛ رسمت بمفردها صور جمالية بكشافى إضاءة وضعته بين أصابع يديها لعبت بهما مع حركاتها الراقصة فى أوضاع مختلفة مع حرصها على إبراز هذا الجزء من الجسد «الرحم»؛ بالتركيز على إظهاره فى شكل السونار مرحلة الكشف ومراقبة الطفل فى مراحل نموه الأولى ثم مرحلة الدفع به للحياة؛ ولما عرف عن الرقص دائما من اهتزاز الجسد وحركاته الدافعة والنابضة بالحياة ربطت شيماء بين حالة هذا النبض بالرقص فى أشكاله البدائية الأولى مثل الرقص الإفريقى الذى كان يرتبط دائما بالتعبير عن طقوس الحياة المختلفة مثل رقصة الإخصاب والميلاد من هذا التراث اتخذت شيماء تدرج حركاتها بالعرض سارت بهدوء وتدرج واضح حتى وصلت إلى حالة الاندفاع بهذه الرقصة ثم الرقص الشرقى المعروف بحالته المعهودة؛ فهو الشكل المعبر عن كيان وثقافة وحركة شعبية أصيلة؛ وفى هذه الرقصات تهتز منطقة الرحم وترتعش دافعة ومحرضة على الحياة؛ قدمت شيماء شكرى حالة جمالية راقصة بالجمع بين الرقص الشرقى وأحد أشكال الرقص الإفريقى رسمت بالنور هذا الجزء من الجسد المهتز فى حركات ايقاعية نابضة بالاندفاع والتمرد على تقاليد اجتماعية بالية؛ كانت تلك المنطقة الخصبة من الجسد هى البطل البارز دائما فى حركتها وفى الأوضاع الجمالية التى اتخدتها بالإيحاء والميل والإيماءة امتلكت شيماء رؤية وحساسية وايقاع فى أداء كل حركة معبرة عن فكرة العرض وفلسفته العامة؛ مع الرسم بالنور على جسدها وخيالها البارز فى خلفية المسرح طوال العرض؛ عمل فنى بديع استطاعت المصممة والراقصة تقديمه برؤية أقرب للوحات الفن التشكيلى وكأنها ترقص داخل لوحة لعب الرسام عليها بالإضاءة لتتخذ بهذا الرحم أوضاع متعددة من مراحل حمل الجنين إلى الولادة والخروج للحياة؛ العرض تصميم وإخراج شيماء شكرى قدم بالتعاون مع أحمد صلاح بالعزف الموسيقى وشيرين حجازى بالتدريب على الرقص الشرقى.