الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى الدورة الخامسة من أيام قرطاج للرقص المعاصر

رحلة الرقص من جدران المسارح إلى اكتشاف الأجساد والأمكنة

تونس - هند سلامة



 كلمات لم تنطق ومعان لم تفسرها الألسنة، فسرتها أجساد طائفة وأذهان متقدة مزدحمة بالأفكار وعمق اللحظة الراهنة، بهذه المعانى وتلك الرؤية الفنية المعاصرة للعالم.. انطلقت فعاليات الدورة الخامسة من أيام قرطاج للرقص المعاصر باحثة عن أشكال أخرى فى التعبير والتصميم الحركى وأماكن أوسع وأرحب من ضيق أفق جدران المسارح التقليدية، بدأت فعاليات المهرجان برئاسة المصمم والراقص سليم بن صافية بعرض «أرشيبال» للمصممة والمخرجة ماتيلد مونييه..يحاول العرض الإجابة عن سؤال كيف نرقص معا بطرق مختلفة كيف يمكن الاندماج بين مجموعة من الراقصين.. 

هكذا كتب فى توصيف العرض بالكتيب المصاحب لفعاليات المهرجان لكن العمل لم يقدم شكلا أو إبداعا جديدا فى الرقص الجماعى سوى ببعض المشاهد المتفرقة بينما قد يبدو فى بعض الأحيان أشبه بحركات تمارين «الأيروبكس» أكثر منه عمل يحمل لوحات فنية متنوعة الفكر والإبداع، بينما كان العزف الموسيقى الحى على النقيض من العرض حيث افتتح المهرجان بعزف لفرقة موسيقية قدمت ابداعا استثنائيا ومتعة حسية أعلى من العمل الراقص.

يبحث المهرجان عن أشكال أخرى فى فنون التعبير الحركى والعرض الفنى بجانب الاهتمام الكبير الذى بدا واضحا فى اتباع منهج ورؤية فى وضع تقاليد لبناء قاعدة جماهيرية لهذا الفن المنعزل بين قاعات المسارح، الذى قد يقتصر جمهوره على المتخصصين بعالم الرقص أو نقاد من نفس المجال، بينما ظل جمهور الشارع محروما أو معزولا عن هذا الفن النخبوى الذى قد يبدو بعيدا عن أرضية اهتمامه، فى خطوة جديدة حرص المهرجان على الخروج لأحضان الجماهير بتقديم عروضه بأماكن متفرقة بين أنواع مختلفة من الجمهور، كان على رأس هذه الأماكن المسرح الوطنى التونسى الذى يقع بين منطقة «الحلفاوين» وهى منطقة شعبية بعيدة كل البعد عن عالم الرقص المعاصر، ثم منطقة «فحص» منطقة أثرية تقع بين الجبال وتحتوى على مسرح رومانى يتم إعادة العروض على خشبته بالتوازى مع عروض العاصمة، وعروض بين شارع الحبيب بورقيبة ثم بمنطقة البحيرة ميامى والتى تضم مجموعة من المقاهي، قدم خلالها عرض «هيب هوب للأمل» تصميم رضا زريق وهو عمل فنى لمجموعة من الأطفال مستوحى من فنون السيرك قدم الأطفال لوحات فردية وجماعية بمهارة كبيرة بدوا جميعا كأنهم لاعبو سيرك محترفون نجحوا فى استقطاب الجمهور ولفت الأنظار إليهم للتوقف عن السير والانشغال بأى شيء إلا بمشاهدة هؤلاء يرقصون ويقفزون ويتحركون فى حركات بهلوانية بخفة واقتدار، وبالتالى نجح المهرجان فى بناء قاعدة جماهيرية بين أجيال مختلفة لربط الشباب والأطفال وأولياء الأمور بهذا الفن، بجانب اكتشاف أماكن أخرى جمعت بين الأصالة والمعاصرة وربطت أذهان الجماهير بمتعة الذهاب وزيارة أماكن تاريخية وأثرية ثم متابعة أفكار وقضايا تناولتها هذه العروض بإعادة صياغتها فى قالب فنى راقص.

«يومى»

فى مداعبة أخرى لخيال الأطفال والكبار قدم العرض الفنى «يومى» تصميم حركى إدوارد هيو، وهو عمل يحمل مزيج من الإبداع التشكيلى فى السينوغرافيا والتصميم الحركى الذى كان همه الأول التعبير بالحركة والتشكيلات الفنية المبتكرة بسرد قصة سحرية مستوحاه من الحكايات اليابانية القديمة من عمق ثقافة هذا المجتمع، عن فتاة تعيش فى عزلة تنشغل بالقراءة والإطلاع تداعبها كائنات سحرية أقرب للأشباح وكأنها دخلت فى عالم من السحر والخيال من خلال هذا الكتاب الذى يشغلها أحدهم وكأنه وقع فى حبها يحاولان التواصل لكن تحول بينهما بعض الكائنات الأخرى الخرافية القادمة من نفس العالم، ثم تسبح فى مناظر طبيعية وكأنها دخلت فى غابة مهجورة ارتدى الراقصون ملابس امتزجت فيها هذه التشكيلات لمناظر طبيعية متنوعة بين مسرح مجرد من الديكور وتشكيلات جسدية وبعض أدوات السينوغرافيا التى استخدمها ابطال العمل أدخل «يومي» جمهوره صغارا وكبارا فى عالم من السحر والخيال ببساطة وعذوبة ورقة الحركة وابداع الموسيقى المصاحبة للعرض والمعبرة عن لحظاته حيرة البطلة وشغفها باكتشاف هذا العالم الخيالي.

«عامل/ عمال نظافة» 

فى «عامل/ عمال النظافة» يقدم الراقصون شكلا آخر  ورؤية أخرى بالرقص المعاصر للتعبير عن رحلة معاناة هؤلاء الكادحين فى الأرض بحركات مترنحة فردية وجماعية وتشكيلات إيقاعية على آلة الدرامز واستخدام عصى هذه الآلة والدق بها على الأرض، وبحركة جسد أعياه العمل والإرهاق فى تنظيف الأرض كان الراقصون فى حالة بليغة من الاندماج والتعبير الفنى عن تلك المعاناة الإنسانية اليومية بإيقاع حركى متصل وأحيانا مذبذب بين التوقف وإعادة الحركة من جديد أحيا هؤلاء الراقصون الأربعة قيمة الرؤية الفنية والفكرة التى تطغى على العمل بالكامل لتخرج منتجا فنيا قريبا من آلام وأوجاع البشر غير متعال أو بعيد عن نبض الجمهور وهؤلاء البسطاء الذين أعياهم الفقر وتحمل مشقة الحياة فى العمل المتواصل دون شكوى حرص أبطال العرض على نقل هذه المعانى وتلك المعاناة بصدق المعايشة بالأداء الحركى والذهنى بالتركيز على الأداء التمثيلى مع الحركة والعزف الإيقاعى على آلة الدرامز كما حرصوا على ارتداء ملابس عمال النظافة بدت هيئتهم متحدثة عن قضية العرض قبل بدايته من نساء ورجال.

«ظل الخوف»

«ظل الخوف» من توجو..يحاول العرض تفكيك تركيبات الخوف ولو كان الخوف هو ظلنا علينا ترويضه عن مدى قدرة الفرد على التأقلم مع الخوف يقدم العرض فى صورة مسرحية مبتكرة بملابس كثيرة متناثرة معلقة على خلفية المسرح من الداخل ملابس متعددة الأشكال والألوان وكأنها صورة من تعدد اشكال البشر وتمازجهم معا فى نفس المعاناة وشوال يحمل أيضا ملابس كثيفة يرتديها البطل بشكل عشوائى وتجذبها أحدهم على الأرض وكأنها مهاجرة تبحث عن مأوى ينقذها من ظل هذا الخوف الذى يتبعها، يترك العمل فى لوحاته الراقصة المتفرقة والصورة المسرحية التى حرص صناعه على اتقانها انطباعا بحالة الهجرة والخوف من البقاء فى هذه الشوشرة وهذا التشوش والحياة العشوائية التى بدت من تلك الملابس المتناثرة والغير مرتبة أو موضوعة فى تناسق أو انسجام بمهارة وخفة حركية قدم الراقصون والمصمم سيناجى أفياديجنجيان رؤية إبداعية وفكرية لحالات الخوف والرغبة فى الهجرة والهروب من كل أسباب هذا الخوف التى تحيط الفرد داخل مجتمعه.

«جدايا»

«جدايا» تصميم سفيان الجوينى ينبش العرض عميقا فى ذاكرة الجسد المتوارثة عبر الأجيال والتى تطبع وجودنا حتى دون أن تتنتمى إلينا كان نموذج الجدة الفلاحة هو مصدر الإلهام فى عرض «جدايا» بالرغم من أميتها وقفت الجدة فاطمة وراء وصول أبنائها السبعة إلى مراتب مرموقة فقد أصبحوا مهندسين وأساتذة وجامعين تطفو ملامح الحياة الريفية على أجواء هذا العمل الفنى الإستثنائى الذى اختار مصممه موقعا أقرب لحياة بيوت الريف بالمسرح الوطنى التونسى بمنطقة الحلفاوين وهى منطقة شعبية تراثية تحتضن هذا الفضاء المسرحى المفتوح الأقرب لشكل بيوت الريف القديم وضع المخرج سفيان الجوينى فى منتصف هذه الرقعة أو المساحة المفتوحة «طابونة» أو فرن فلاحى للخبز بداخله خبزا حقيقيا وأخذ يخبز ويرقص معبرا عن هذا الجسد الذى ولد من رحم تلك الجدة وهذه الذكريات، تتحدث الجدة فى تسجيل صوتى ويتخذ الراقص أوضاع حركية معبرة عن فقدانه لهذه الحالة وتلك الذكريات وانتمائه لهذا العالم القديم الأصيل عمل فنى استثنائى حمل مزيجا من عبق الماضى بالحالة المسرحية التى تم وضع الجمهور فيها بالجلوس فى دائرة مغلقة وكأنهم يجلسون بالفعل فى منزل ريفى قديم واشتعال الطابونة بالنيران ونضج الخبز داخلها ثم توزيعه على الجماهير فى نهاية العرض، مزج العرض بين أصالة المكان والشكل المعاصر بالتعبير الحركى والتصميم الذى خرج عليه العمل الفنى يستعيد فيه الجسد ذكرياته المنسية.

 انفرد المهرجان بحالة استثنائية فى وضع  خطة ورؤية فنية وفكرية لخلق عناصر الجذب الجماهيرى كما سبق وأن ذكرنا لهذا النوع من الفن النخبوى والإستثنائى لينزع عن الرقص المعاصر صفة النخبوية ليس بالخروج فقط إلى مناطق أرحب بالشوارع والأماكن المفتوحة لكن أيضا بتناول موضوعات إنسانية ربما تمس قلب الشارع مثل «عمال النظافة»..كما اتخذ فن الرقص المعاصر أشكالا وأنماطا وأطيافا أخرى فى التصميم الحركى الأكثر تعبيرا ولمسا لمشاعر وأذهان المشاهدين حيث اشتركت العروض فى ميزة هامة الاهتمام حول خلق فكرة وموضوع يتم تناوله فى إبداع حركى مغاير وغير تقليدى خرج من حدود أشكال الرقص التقليدية، ففى كل عمل أنت على موعد مع إكتشاف أشكال وأوضاع اتخذتها الأجساد الراقصة لتفصح عن أشياء لم تروها الكلمات، تصميمات مبتكرة تناسب وتلائم فكرة العمل الفنى بعيدا عن إعادة تدوير حركات مستهلكة معروفة مسبقا فى عالم الرقص، ففى هذا المهرجان عاش الجمهور فى رحلة إبداعية لاكتشاف الأجساد والأمكنة.