الأربعاء 17 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع.. حصانٌ وشمسٌ

(1)



بلا عينين لم يستطع رؤية الأكياس الفارغة، والنّفايات الطافية على صفحة الماء، ربما دفعته الرَّوائح الكريهة إلى استشعار أنَّ المنظر شديد الكآبة لدرجةٍ دفعته إلى الاستدارة، وإعطاء النَّهر ظهره، لكنَّه سرعان ما تذكر ما خرج من أجله، فعاد إلى استقبال صفحة الماء بصدره من جديد، خمسمائة خطوةٍ لركبتين أكلتهما الخشونة، وانحناءٌ جبريٌّ لظهر نخر السُّوسُ عموده الفقريَّ، بجسدٍ بائدٍ، وثيابٍ باليةٍ، كان يستقبل الصَّباح برحلة يوميّة من البيت إلى النَّهر، كان قلبه خزانة محشوة بالأحزان، وكانت عصاه الحائرة صنارةً صدئةً يمدُّها بتؤدة، كى يلتقط الذِّكريات المبعثرة فى كلّ مكانٍ مَرَّا به سَوِيًّا.

(٢)

كثيرًا ما حملها فوق كتفيه أيَّام كان لظهره قُوَّةُ حصان، كان يحلو لها أن توقف حصانها على حافة النّهر، فلا يملك إلا الرّضوخ، فطلبات «وفاءَ» أوامرٌ واجبة التَنفيذ، كانت الطَائرات الورقيَّة الملوَّنة تملأ السَّماء محلقة فوق صفحة الماء الرَّائقة، ثَمَّة خمسةُ أولاد يرابطون على الشَّاطئ، وبنت واحدة دون السَّابعة امتزجتْ بحصان، فصارت البنتُ رأسَ الحصانِ وعينيه، وَصَارَ جسدُ الحصانِ ساقيها. شَدَّ الخمسةُ خيوطَ طائراتهم، وأرخوها، فتماوجتْ الطائراتُ راقصةً فى حركاتٍ بهلوانيَّةٍ، راحتْ البنت تتمايل بنصف جسدها العلوي فوق كتفيه، بينما أطلقت يداها بفرح بالغ بالوناتِ بائع متجوِّل مَرَّ بمحاذاة النَّهر، فسابقت ضحكاتُها البالونات التى ارتفعتْ فى الهواء محاولةً اللّحاق بسرب الورقِ المُلَّونِ. لطالما حرص على رفع وجهه نحو الصَّغيرة العالقة فوق كتفيه، كى يشاركها بهجتها، ولكنه فى كُلِ مَرَّة كان يَجِدُ نفسَه مضطرًّا إلى مقاومة رائحة كبده المَشويِّ. بمرور الوقت أجاد رسم ابتساماتٍ مزيَّفةٍ صادرةٍ عن شفتى رجلٍ سكنت الحسرة قلبه.   

(٣)

لم تنجح حيله يومًا فى صرفها عن التَّحديق إلى سيقان الأطفال، و لمَّا رأتْ أرجلهم لا تلامس الأسفلت من فرط السُّرعة، تيقَّنت أنَّ بمقدور هؤلاءِ الصِّغار التحليق فوق الشوارع، والوصول إلى قرص الشمس البعيد. فكانت كلما رأت السَّيارات مارقةً، تنادى بأعلى صوتها: امنحينى إطارينِ يدورانِ بلا توقف، حتَّى أقطع الشوارع الشاسعة كغزالةٍ. وكانت كلما رأت الطّيور تُحَلِقُ، نادتْ بأعلى صوتها: أعيرينى أجنحتك، حتى أسبقك إلى الشمس البعيدة.

(٤)

على باب غرفة الولادة وقف متوتِّرًا، مرهفًا السَّمع، مُتشوِّقا لميلاد صرختها الأولى، حملتها الممرِّضة، ودسَّتها بين ذراعيه هامسةً فى أذنه، تحسَّس ساقى ابنته، فتغضَّنتْ ورقةٌ فئة خمسينَ جنيهًا فى قبضته، وذهل عن ترضية الممرِّضة الواجمة، بعينين حانيتين تفحص وجه صغيرته، ولَمَّا رأى فيه قرصَ الشَمسِ ساطعًا، بدهشة انكبَّ على وجنتيها لاثمًا الضَّوء، فامتزجت حلاوة قبلاته بملح دموعه المنهمرة.    

(٥)

جلس على مقعده الخرسانى المتاخم للنَّهر ذاهلًا، منصرفًا عمَّا يدور حوله، منهمكًا فى صيد الذكريات. ولمَّا انتصف النّهارُ، هَمَّ بالعودة إلى بيته وحيدًا، متبرِّمًا، إذ كان لِزامًا عليه أَنْ يخطو خمسمائة خطوة أخرى على ساقين متآكلتين. سار مترنحًا كحصان مقطوع الرَّأس منزوع العينين. مَرَّت الطّيورُ، وشُدَّتِ الخيوط، وتماوجتْ الطائراتُ، ورقص البهلوان، ومرقت السَّياراتُ، ولفت الإطارات، وركضت الغزلانُ، وحلق الأطفالُ. بينما ظلّتْ وفاء فى عشها المنسوج على قرص الشَمس البعيد، تنادى بأعلى صوتها طيلةَ عشرين عامًا مَرّتْ: أيّها الحصان، امنحنى روحى المُخَبّأةَ فى خزانتك، كى أتمكنَ من إعادة رأسك و عينيك إلى جسدك القديم.