الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

رحلة اكتشاف المدينة العتيقة بمهرجان «دريم سيتى» فى تونس

حوار صغيرة..وشوارع متعرجة رصفت بالحجر الأبيض صممت على هيئة زقاق فى زقاق، أزقة تتداخل تداخلا بديعا عجيبا تبدو كالمتاهة الكبرى التفت حول بعضها البعض، وكأنك تسير فى دائرة مغلقة تتجول داخل هذه المتاهة الممتعة حاملا خريطة عريضة تساعدك على استيعاب جغرافيا المكان المعقد، تقع المدينة العربى فوق ربوة تطل على البحر، تأسست عام 698 حول جامع الزيتونة وهو أقدم المعالم الدينية بتونس، احتضنت المدينة العتيقة فعاليات مهرجان «دريم سيتى» فى دورته العاشرة بالفترة من 22 سبتمبر إلى 8 أكتوبر الذى تنظمه جمعية الشارع فن تحت إشراف المديرين الفنيين سلمى ويسي، سفيان ويسي، يان جنسن، والشيخة حور القاسمى، من تلك المدينة التى خرج منها عبق أزمان ماضية يكتشف ضيوف المهرجان العديد من القصور والمواقع الأثرية بتونس التى شهدت أحداثا تاريخية ترجع لعهد الدولة العثمانية، مواقع شديدة الروعة فى تصميمها المعمارى شديدة الثراء بالعمق التاريخى.



 

من قلب مدينة تونس يخوض جمهور المهرجان مغامرات يومية حائرا بين رحلة البحث أو التطلع فى معمار المدينة حتى يضيع فى حواريها إلى أن يفوته وقت العرض، ثم يعود للبحث عنه من جديد باليوم التالى ربما يصل إلى الواجهة الصحيحة، وعلى أية حال لن تشعر بالحسرة إذا ضللت الطريق فمن هذا التيه تأتى متعة التجول والاكتشاف.. أجواء مثيرة يحيطها الصبر والغموض تبدأ المغامرة منذ اليوم الأول مع رحلة الذهاب لمقر المهرجان نفسه «دار باش حامبة» الذى يقع داخل سوقا للعطارة فى حارة شديدة الضيق بالكاد تستطيع السير فيها بمفردك، «دار باش حامبة» مكان أثرى أحد قصور تونس العريقة اخذت الدار اسمها من عائلة «باش حامبة» ذات الأصل التركى وهى رتبة عسكرية عثمانية تعرف بقائد الخيالة فى الجيش التونسى العثمانى من 1789 وحتى عام 1923 ثم انتقلت ملكيتها إلى راهبات الفرنسسكان وأسسن بالقاعة الكبرى للدار كنيسة صغيرة بعد أن كبروا فى العمر اصبحن قسسيات لم يسكن بها منحوها لرجل إيطالى ردها مقرا للجميعة الثقافية، ثم بعد وفاته قرروا أن تصبح الدار مقرا لجمعية الشارع فن عام 2015، هكذا يعيش الجماهير حالة من المتعة والمغامرة بكل هذا الغموض الذى يغلف تلك الأماكن المتداخلة بحوار وأزقة محاطة بالأسوار والأبواب المغلقة، يسير كل فرد من شارع إلى آخر باحثا عن مكان العمل الفنى الذى هو بصدد مشاهدته، تبدو أجواء رحلة الوصول للعرض ممتعة ومثيرة أكثر من حضور العرض نفسه، وبالتالى لن تنشغل كثيرا فى هذا المهرجان بمدى جودة العمل الفنى بقدر انشغالك بروعة وجمال وفخامة المعمار الذى احتضن هذا العمل، من تلك الفلسفة الدقيقة للغاية وبهذا الذكاء والوعى بقيمة التاريخ والأثر أسست جمعية الشارع فن مهرجان «دريم سيتى» لإحياء تراثا مهملا منسيا بهذه المدينة العتيقة، لتعريف الجمهور بمدى الثراء بمعمارها المميز الخلاب سواء من أبواب المدينة وألوانها المتنوعة بين الأصفر والأزرق والأبيض والبني.. تضم مجموعة غير قليلة من القصور والمتاحف والمساكن المهجورة تحتضن هذه الأماكن بمعمارها الأصيل والفخم عروض رقص، سينما، مسرح، وفن تشكيلى وحفلات غنائية.

«طيور»

افتتح المهرجان فعالياته بالسير من شارع الحبيب بورقيبة إلى «باب البحر» وهو بداية دخول المدينة العتيقة الباب الفاصل بين الحى الأوروبى والحى القديم، ثم داخل المدينة افتتح المهرجان عرض «طيور» بدار حسين للفنان سفيان ويسى عملا فنيا استثنائيا قدم فيه الراقص لوحة فنية مع طائر الحمام الذى اندمج معه فى إيقاع الموسيقى والرقص حدثت حالة من الانسجام والتمازج بين الراقص والحمام، حمامتان بيضاء وأخرى سوداء كانتا طوع يديه أثناء ممارسة رقصته استقرت مرة على رأسه ومرة بين يديه، وأخرى على كتفه ثم يضعها فى مسكنها تقف منتظرة اشارته بالدخول فى أجواء العمل الفني، عمل فريد قدمه صاحبه وكأنه يستعرض حالة أو علاقة حميمية خاصة بينه وبين طائره الذى انسجم معه فى حالة من الحب والوئام وكأنه عمل صوفى عذب تجرد فيه صاحبه من اشكال الرقص التقليدية فى صحبة حمامته الراقصة!

«خطوط»

يأتى أيضا ضمن فعاليات المهرجان عمل آخر استثنائى «خطوط» الذى قدم بساحة الحفصية عملا فنيا شديد الروعة تم دمج ذوى الاحتياجات الخاصة فى رقصات متنوعة يبدو العرض دعوة كبرى للرقص والتحريض على الحركة والانطلاق والتحرر من قيد السكون حتى ولو كان سبب هذا السكون عيب خلقى قد يمنع صاحبه أو يحول بينه وبين حرية الحركة والانطلاق، اندمج شباب وأطفال من ذوى الاحتياجات الخاصة بالعمل الفنى بالرقص والغناء قاموا بأداء حركات راقصة حتى ولو بدت شديدة الصعوبة والتعقيد تحرروا من الخوف والحرج اندفعوا جميعا فى حركات جماعية وثنائية ليخرج عرض «خطوط» متجاوزا كل الحدود والخطوط الحمراء التى تمنع صاحبها من ممارسة الحياة بشكل طبيعى.

«أطلس»

ارتدى الراقص ثياب غريبة وأساور تصدر أصواتا موسيقية، غطى وجهه واعتلى رأسه قرنان تشبه قرون الغزلان التى تسكن الجبال من مفهوم الجبال ومن تراث الأمازيغ فى عاداتهم وطريقة تعاملهم مع هذه الجبال فى الحرب والاحتماء بها قدم عرض «أطلس» أو الجبل ب«دار لصرم» بالمدينة العتيقة ظل يقدم حركات راقصة من تراث الأمازيغ بالمغرب مع صوت الأساور التى تشير للقيود التى كان يكبل بها الاستعمار العبيد ثم نزل فيديو بروجيكتور على ستائر بيضاء استعرض فيه شكل الجبال والغزلان التى تسكنها بجانب بعض الموسيقى من تراث المغرب لرضوان مريزيغا يعتبر هذا العمل ثلاثية مستوحاة من القصص الأسطورية للثقافة الأمازيغية، خاصة من قبل أولئك الذين تربطهم علاقة وثيقة بجبال الأطلس فى شمال إفريقيا من حيث الروحانية والفن والفلسفة، ويسعى مريزيقا من خلال هذا العمل إلى كشف معنى المحيط الطبيعى للجبل، على عدة مستويات، باعتباره رمزا رومانسيا وسياسيا يوفر الملجأ والحماية فى أوقات الحرب والقمع، اشترك معه فى تقديم رقص فلكلور من المغرب «جوال» والذى قدم بساحة مدرسة المنتصرية حركات راقصة متكررة بالتبادل بين الراقصين فى حركة جماعية ينفصل فيها بالتتابع الراقصون عن بعضهم البعض ثم يعودون للإندماج يطوفون فى حركات متتالية متكررة بانسياب وانضباط شديد.

 

خلفية تاريخية.

لم يقتصر المهرجان على تقديم عروضا للرقص والذى تعمد صناعه اختيار عروض مرتبطة بالتراث منسجمة مع الأماكن التى احتضنت فعالياته داخلها بينما قدمت أيضا عروض فن تشكيلى ومعارض للرسم والتوثيق وحفلات غنائية من التراث الأفريقى للجماهير، وكذلك عروض سينمائية قصيرة ومرئية داعبت خيال المتلقى تناولت موضوعات متفرقة ثم عروض خيال مرئية بأحد البيوت المهجورة التى أصر صاحبها أن يدخل كل فرد غرف البيت بمفرده حتى يعيش تجربة العزلة والوحدة كاملة داخل هذا المكان المهجور والذى ضم أجواء تبدو مرعبة من تصميمها التشكيلى لكنها تعبر عن المخاوف والعزلة التى دارت برأس صاحبها، ثم أعمال توثيقية وأشكال التعريف بالبيئة فى طريقة جمع الزيتون واستخراج الزيت منه فى تربة «سيدى بوخرسان» التى تحتضن أقدم شجرة زيتون بالمدينة العتيقة عمرها 150 عاما، من الأماكن التى قدمت بها فعاليات المهرجان «دار لصرم»، مدرسة المنتصرية»، «مدرسة الصادقية»، منطقة الحفصية، «دار حسين»، «دار بن عاشور»، «تربة سيدى بوخرسان» كما أشار لنا المهندس المعمارى والمؤرخ وأحد العاملين بمهرجان دريم سيتى عدنان الغالى.. عن الخلفية التاريخية والتراثية لهذه الأماكن..قال فى تصريحات خاصة لروزاليوسف شارحا وموضحا العمق التاريخى والتراثى لقصور المدينة العتيقة:

 

تم اختيار المدينة العتيقة فى أول دورة للمهرجان منذ عام 2007 نظرا للقيمة الأثرية والثقافية التى تتمتع بها، خاصة أنه للأسف دائما ما تكون المواقع الأثرية الأكثر اهمالا حتى أنها واجهت صعوبات فى المحافظة على التراث وصيانة المعالم الأثرية إلى أن أدركت الدولة مدى أهميتها، تحتوى المدينة على العديد من المعالم الأثرية مثل «قشلة العطارين».. وتعنى المجمع العسكرى هى كلمة تركية كانت ثكنة عسكرية فى عهد الدولة الحسينية عائلة حكمت تونس 252 سنة والمقر عجيب فى الهندسة والفناء والأروقة  يحتوى على سجن وقاعات للحياة المشتركة كان سكن للثكنة الإنكشارية وهو الجيش النظامى التركى ومقرا للتدريب، ثم «دار ابن عاشور».. يرجع تاريخها للقرن 18 كان بيت علم اسمه دار أبو عاطور كان عالما وكاتبا فى الدولة التونسية، ثم أخذته عائلة أخرى عائلة ابن عاشور تأثرت الدار فى معمارها بالمعمار الإيطالى مثل كل المبانى فى تونس المتأثرة بالمعمار الفرنسى والإيطالى، خرجت منها العائلة للسكن فى المرسى كان لديهم قصرا هناك ثم قام المجلس البلدى بشراء هذه الدار وحولها إلى مكتبة بلدية تونس فيها جمعت الوثائق الخاصة بمدينة تونس بمعنى أن كل كتاب أو مجلة أو دورية تخص تونس فقط، واختيار المكان له علاقة بإختيار ليلى دخلى هى مؤرخة وباحثة تعيش بين باريس وبرلين، هذا العمل الفنى مبنى على توثيق الذاكرة فى الصراعات الاجتماعية والسياسية.

 

ويتابع أما «تربة سيدى بوخرسان».. دخل مفهوم الترب العائلية مع العثمانين فى القرن السادس عشر كان لديهم نظام الترب العائلية الموسعة أدخلوا هذه العادة إلى تونس، جاء الاسم من بنى خورسان الذين حكموا تونس من القرن الحادى عشر حتى الثانى عشر الميلادى اكثر من تسعمائة سنة، كانت التربة للعائلة المالكة كل هذه المنطقة كانت مقابر حتى جاءت الحماية الفرنسية اتخذت قرارا أن تخرج المقابر من المدن لكن تم الحفاظ على بعض القبور، تربة سيدى بوخرسان اختارها الفنان الفلسطينى خليل الرابح حتى يقيم متحفا لتاريخ العلوم الطبيعية والإنسانية، اعتمد العمل الفنى على شجرة الزيتون الموجودة فى هذه التربة، تعتبر أقدم شجرة زيتون بالمدينة العتيقة عمرها حوالى 150 سنة، قدم خلال العمل مراحل استخراج الزيت من الزيتون العملية التى يمر بها الزيتون كاملة ثم الفحم الذى تتم صناعته من جزوع هذه الشجرة.

 

مقر «معهد نهج الباشا».. لديه أهمية من ثلاثة جوانب هو أول معهد ثانوى للنساء فى تونس، وسمى نهج الباشا لأن تم بناؤه على انقاض دار الباشا لكنه ليس دار الباشا نفسه، باشا تونس من الارستقراطية العثمانية هو رتبة وليس لقب لأحد، أول معهد ثانوى للبنات حتى أن النساء اسسسوا جمعية لهن بداخله وظل فترة من الوقت للنساء فقط.. «المدرسة المنتصرية» من اهم المعالم فى منطقة الحفصية كانت مدرسة عندما أغلقت تم تحويلها إلى روضة أطفال تابعة للبلدية، والشيء الجيد أنها كانت من اول المحاولات الناجحة لصيانة مكان اثرى تم تحويله من مدرسة إلى حضانة فأصبح عالقا فى ذاكرة هؤلاء الأطفال وجعل بينهم علاقة ارتباط كبيرة بالتراث لأنه مكان أثري يرجع إلى القرن الخامس عشر معماره من الحجر والرخام فأصبحت لديهم علاقة خاصة معه وذكريات حفرت فى الذاكرة  لايزالون متعلقين بالمكان.

 

فندق «سان جورج».. من أول المبانى بالمدينة العتيقة المرتبطة بالحى الأوروبى اول الفنادق التى صممت على النمط الأوروبى فى العشرينيات والثلاثينيات، هو فندق ومطعم وحانة كان أيام الاستعمار يرتاده الرجال والنساء بينما أصبح فيما بعد اجتماع للرجال فى تونس بعيدا عن العائلات لأنه كان فى فترة من الفترات لا يصح أن تصطحب العائلة فى جلسات شرب الخمر ثم تحول الأمر بالطبع مع تطور الزمن.

 

«دار لصرم»..هو قصر أسس فى أواخر القرن الثامن عشر تم ترميمه وإعادة بنائه بالكامل من طرف ما يسمى بالأغا كانت رتبة عسكرية عثمانية تمنح أهمية كبيرة لصاحبها ينتمى لعائلة كبيرة يمنية هى عائلة الأصرم هذه العائلة تعتبر من العائلات النبيلة فى تونس، «دار حسين» أنشئت الدار على أنقاض قصر الإمارة الذى بنى عهد بنى خرسان، عندما دخلت فرنسا لتونس أصبحت مقرا للقيادة العسكرية فى القرن 19 سميت على اسم حسين باشا كان اول رئيس للمجلس البلدى بتونس كان المجلس يتكون من عشرة أعضاء، ومجلس العشرة يجتمع فى هذه الدار، يسمى دار العشرة باعتباره اول دار يرمز للحياة المدنية.

 

«منطقة الحفصية».. أقدم حى يهودى فى تونس سنة الف ميلادية كان اليهود ليس لهم حق الدخول للمدينة العتيقة، كان السكان الأصليون مسيحيون ثم دخل معظمهم الإسلام حتى تم الغاء اسقفية قرطاج من الفاتيكان بالقرن الحادى عشر لأنه ليس هناك مسيحيون بما يكفي، ثم حدثت حروب السنة والشيعة انتصرت السنة وبرز منها عالم جليل فى تونس «محرز ابن خلف» يعتبر السلطان أو الولى الصالح الذى يحمى مدينة تونس، وهو من مكن اليهود للإستقرار داخل المدينة القديمة منحهم حى ليس له أبواب ولا أسوار حى «الحفصية»، ولم توضع لهم شروط للدخول والخروج للمدينة بمواعيد مثلما كان من قبل يدخلون فى الصباح ويخرجون بعد المغرب، وليس لهم الحق فى السكن بالمدينة، وتكريما له أسسوا اقدم كنيسة أوجامع يهودى باسم «سيدى محرز» وأصبحوا يزورون مقامه فى كل عام.