السبت 21 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مفارقات كوميدية حول الخلافات الزوجية

«اطمئن يا سيدي..إن المسرحية ليست مقتبسة من شىء أنها واقع حى عشته..عشته بكل أبعاده».. بتلك العبارات التى يبدو عليها الأسف كتب المؤلف الإسبانى إنريكى بونثيلا، بعد أن منح أول أعماله المسرحية «ليلة ساهرة من ليالى الربيع» لمدير أحد المسارح الكبرى بمدريد، أعجب الأخير بالعمل إعجابًا شديدًا وتمنى لو أنه غير مقتبس من عمل إنجليزي، فرد عليه بونثيلا بهذه الكلمات يطمئنه بأن ما كتبه كان واقعًا عاشه وجد فيه مادة خصبة لعمل فنى واختار أن يكون أول أعماله المسرحية.. عن هذه الليلة الساهرة التى قضاها هو وزوجته يستعيدان معًا وضعهما المالى، فاحتد النقاش بينهما الذى قررا على إثره الانفصال عامين لحين استعادة الاتزان والتمكن من العيش معًا مجددًا، ذهب بونثيلا بعد هذا النقاش والقرار بالانفصال إلى أحد المقاهى ووجد فيما حدث مادة لصناعة عمل مسرحى ربما يكون ناجحًا.



عن «ليلة ساهرة من ليالى الربيع» والتى لا تمثل واقع بونثيلا وحده قرر المؤلف والمخرج محمد عبد الستار إعادة صياغة هذا النص المسرحى فى قالب مصرى معاصر للخلافات الزوجية المتكررة، «بعيد عنك» يتناول دراما الحياة اليومية نسج فيها المخرج كتابة على الكتابة وليس مجرد إعداد عن نص أجنبى، وضع الكاتب الإسبانى القواعد الأسياسية لإقامة بنائه الفنى، بينما مد عبد الستار هذا البناء ليحوله إلى شكل آخر على نفس الهيكل الأساسى للنص الأصلى، استغل الهيكل وبعض عناصره الأساسية واستعان بعناصر جديدة أحيا به عالمًا من السخرية والكوميديا. 

كان للمخرج بصمة واضحة فى الكتابة على النص الأصلى الذى استغل هيكله الأساسى بوضع إضافات مميزة منحت له روح معاصرة، يتشكل الهيكل الأساسى لنص «ليلة ساهرة من ليالى الربيع» فى الزوج والزوجة والخادمة والرجل الذى يقتحم المنزل بعد خروج زوجها، وهو ما استعان به المؤلف فى «بعيد عنك» لتأسيس الصراع الدائر بينهما فى ليلة أراد الزوج أن يتناول فيها قسطًا من الراحة بينما الزوجة لم تشأ أن تتركه ينال هذه الراحة، فهى لم تصل إلى مبتغاها بعد الجدل والنقاش، بكاء متواصل أزعج زوجها لم يستطع معه النوم، يطالبها راجيًا أن تتركه ينام الليلة حتى يذهب إلى عمله يقظًا لكن دون جدوى تستمر فى البكاء والجدل وفتح النقاش حول خيانته لها مع جارتهما وإهماله الدائم وعدم الاهتمام بأدق تفاصيلها، يشتعل النقاش ويحتد الخلاف حتى يترك الزوج المنزل فى هذه الساعة المتأخرة من الليل بعد أن تطالبه بالطلاق.

اعتمد العمل فى بدايته على الصراع بين الزوج والزوجة وتحيز الخادمة الدائم للزوجة بل وجرأتها فى المعاملة الخشنة الصلبة مع الزوج حتى أنه أصبح يخشاها ويخشى الاحتكاك بها، مما أشعل شرارة الكوميديا والضحك من الدقائق الأولى، ثم تتوالى الأحداث والمفارقات الكوميدية ببدء ظهور شخصيات وأنماط أخرى من الكوميديا أبدعها المؤلف مع صناع العرض، بدأت مع دخول الرجل الحائر الذى يبحث عن مأوى للنوم لأنه مصاب بالأرق لا يستطيع النوم فى فراشه بعد أن تركه للكلب الذى احتله وشعر بالراحة فيه فلم يشأ أن يزعجه، وأصبح يبحث عن مأوى آخر للنوم خاصة فى أماكن تحمل المزيد من الإزعاج لأنه يشعر بالوحدة الشديدة ووجود أشخاص حوله يشعره بالأمان، ثم حارس العقار الذى يسكنه الزوجان، وابن خالتها الطيار الذى يحبها منذ الصغر وخال زوجها الذى جاء لحل النزاع بينهما لكنه يعانى أيضًا من أزمة ثقة بينه وبين زوجته التى تطالبه بتصوير جلسة الصلح حتى تستعيد ثقتها فيه.

اجتمع كل هؤلاء فى هذه الغرفة الصغيرة.. غرفة نوم الزوجين، التى تزينت بإضاءة خافتة وأساس بسيط وشرفة ومكتبة تحمل روايات وقعت الزوجة فى غرامها، حتى الساعات الأولى من الصباح يشتعل الخلاف والصراع بين الجميع كل منهم يحمل معاناته النفسية والاجتماعية الخاصة بينما تداخل الجميع فى الأزمة الأساسية وهى نقطة الصراع الأولى بين الزوجين، أراد المؤلف عام 1929 أن يتناول جزءًا من الصراع بينه وبين زوجته, ثم وجد مؤلف ومخرج شاب فى هذا النص الذى يبدو قديمًا مادة مازالت حية طازجة لتكرار نفس الصراعات والخلافات الزوجية التى لم تتغير، ينسى الزوجان الحب مع مرور الزمن أو ربما لم يعيروه اهتمامًاا كبيرًا مع الحياة الاعتيادية، لتفجر الزوجة طاقة الحب من جديد بادعائها كراهية زوجها وأن الحياة معه أصبحت لا تطاق، وعلى جانب آخر نرى زوج وزوجة يعانيان من أزمة ثقة واستهزاء لقناعة الزوجة بعدم قدرته على حل نزاع رغم عمله بمجال المحاماة إلا أنه فى وجهة نظرها فاشل لا يستطيع حتى تغيير مصباح الكهرباء المعطل!

لم يطرق المخرج محمد عبد الستار باب الكوميديا من قبل، يعد هذا العمل الكوميدى الأول له على مستوى الإخراج والكتابة المسرحية استطاع طرح نفسه بقوة فى هذا المجال الصعب، حيث نجح فى الجمع بين أنماط ومدارس مختلفة من الكوميديا ومزج بينها بذكاء شديد تتمثل هذه الأنماط فى أمجد الحجار، عبد العزيز حسين ثم وليد عبد الغنى لكل منهم أسلوبه ومدرسته فى الكوميديا التى ألف بينها المخرج وكأنه مدرب فى إحدى مباريات كرة القدم يتقن اختيار اللحظة المناسبة لدخول صانع كل لعبة لأداء مهمته ثم ينهى اللعبة بالهداف الكبير وليد عبدالغنى الذى تمثلت تداخلاته بصاحب الهدف فهو من يضع الكرة بـ»الجون»، لم يكتف المخرج بحسن استغلال الكوميديانات بينما استطاع أن يهييء الآخرين للعب شكل آخر من الكوميديا منسجم مع الإطار الفنى العام للعرض. 

انطلقت هذه المدارس والأنماط المتنوعة ببطلة العرض هدير الشريف التى لعبت دور الزوجة بثقة وسلاسة الكبار، امتكلت هدير القدرة على التنوع بين تقديم الكوميديا بمبالغة وبين نعومة الزوجة الحزينة على ما آل إليه وضع العلاقة مع زوجها التى مازالت تحب لكنها تدعى العكس حفاظًا على كرامتها، بين هذا الصراع النفسى الداخلى بما تدعيه الزوجة قولًا وما تمتلكه من مشاعر حقيقية استطاعت هدير أن تتجول بين هذه المشاعر وتلك، حافظت على الخط الفاصل بين الشخصية الكاريكاتيورية الحالمة الرومانسية وشخصيتها الواقعية الحزينة الحائرة، ثم البطل محمد الدمراوى فى دور الزوج الذى قدم كوميديا من الجدية الشديدة، فهو رجل جاد يعمل بمجال الهندسة المعمارية يتعامل مع الأشياء بواقعية وعقلانية فى مواجهة زوجة رومانسية تعيش بخيال الروايات من هذا التناقض بينهما خلقت الكوميديا التى أبدع فى تقديمها الزوج أيضًا بعنفه وواقعيته وسخريته من خيالاتها ويكتمل المثلث الأول بدخول الخادمة ريهام سامى التى استغلت هيأتها الخارجية بالملابس وتسريحة الشعر ونظرة العين المرعبة أحيانًا فى لعب كوميديا بشكل آخر مغاير، فهى شخصية منفرة يكرهها الزوج بينما تتحول بسلاسة وخفة واتزان من النفور والرهبة إلى إنسانة ناعمة وداعمة لموقف الزوجة، ثم يأتى أمجد الحجار الجار الذى يفجر حالة من الغموض وسوء التفاهم تظنه الزوجة فى البداية لصًا ثم تظنه الخادمة سباكًا، ويظنه حبيب الزوجة القديم محاميًا، وأخيرًا يظنه خال الزوج المأذون، جملة من الشخصيات ينتحلها هذا الجار الحزين الذى يشعر بالوحدة ويبحث عن مكان آمان للنوم، من تعدد هذه الظنون يتقمص أمجد أكثر من شخصية وينتقل بينهم بسلاسة وخفة واقتدار كبير ينتزع الضحك ثم التعاطف حيث يتحول بتصاعد الأحداث من شخص إلى آخر يؤدى أمجد هنا دورين دور الممثل المحترف والكوميديان المتمكن، وكذلك عبد العزيز حسين التى شكلت دخلاته مفارقات كوميدية أخرى متباينة مع ما يحدث بالغرفة، ثم أحمد الشاذلى فى دور الطيار حبيب الزوجة القديم الذى يسعى لإشعال الخلاف بينهما حتى يفوز بحبيبته مرة أخرى استطاع شاذلى أن يؤدى دوره بجدية ومهارة فى محاولاته لاستعادة حبيبته وحزنه عليها وتلاعبه بنساء آخريات، بين حيرته مع حبه الحقيقى واحتفاظه بتكنيك الإيقاع بالنساء كان شاذلى له بصمة فى إضافة نمط آخر من الكوميديا، لكن بين كل هذه الأنماط والمدارس التمثيلية المتنوعة يأتى وليد عبد الغنى الكوميديان الاستثنائى الذى ينهج منهجه الخاص فى لعب كوميديا رابحة لا تشبه غيره، يمتلك وليد مهارات فى الأداء وإلقاء الحوار من معاناة الشخصية التى يقدمها، الزوج المعذب من استهزاء واستخفاف زوجته وشدة تعاليها عليه, رسم وليد لنفسه مسارًا فى أداء هذه الشخصية بين الهزل والجد لشخص قليل الحيلة لا يملك حلًا سوى إرضاء زوجته بأى ثمن خاصة فى محاولاته المستميتة بضرورة النجاح فى عقد الصلح بين الزوجين، من هذا المنفذ خرج وليد علينا بشخصية هزلية قليلة الحيلة عاجزة عن الفعل تتلقى الدعم والحلول من الآخرين رغم عمله فى مجال المحاماة، بين النعومة والضعف والجد والهزل صعد وهبط وليد عبد الغنى بهذه الشخصية وصعدت معه قلوب وضحكات الجمهور فهو الكوميديان الرابح أو المربح فى هذا العرض كما سبق وأن ذكرنا هو من ينهى نتيجة المباراة ويحسمها بهدف الدقيقة الأخيرة، «بعيد عنك» استغل مطلع ومعنى أغنية أم كلثوم الذى تطوف على مسامع الحضور مقاطع منها طوال العرض، ليذكرنا بأن الخلافات مهما احتدمت يبقى العذاب الحقيقى فى بعد الأحبة عن بعضهم البعض، عمل كوميدى متزن جمع فيه أنماطًا ومدارس فى فن الأداء التمثيلى وصناعة الضحك ..قدم على خشبة مسرح مركز الإبداع الفنى تحت قيادة المخرج خالد جلال الذى يتبنى مشروعه المهم بإعادة استغلال طلاب المكان من الدفعات السابقة وإنتاج أعمال فنية لهم، العرض تأليف وسينوغرافيا وإخراج محمد عبد الستار، وموسيقى مها عمران.