الأربعاء 17 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع

قصة قصيرة.. مـريـم

كتبها ـــ كرم الصباغ   



تخطر فى فستانها الوردي، فتضحك الشمس لشمس أخرى، ظهرت للتو فى وجه البنت، الذى أشع  منه الضوء، بينما راح  شعرها الأسود الناعم يعلن عن وجوده بنشر العبير فى أرجاء المكان. ثمة فناء واسع، يقع مباشرة أمام البيت المبنى بالحجارة العتيقة، التى احتفظت بصلابتها رغم مرور السنين،  للفناء سور عال مدهون بطلاء أبيض، تصطف بمحاذاته أشجار الرمان،  وترخى  ظلالها على الأرض المكتسية بالعشب. مريم تتوجه إلى رقعة الظل، وتجثو على ركبتيها، ودميتها أبدا لم تفارق يديها، فقد كانت، ولا تزال رفيقتها المثلى، وأنيستها، إذ لم يكن فى الجوار بنات فى مثل عمرها يشاركنها اللعب. ولما كانت « مريم» من ناحية أخرى وحيدة أبويها، اكتفت  بالإفضاء إلى دميتها بمسراتها وأحزانها، وحكاياتها، التى لا تنضب، وتمنت أن لو شاركتها دميتها عاداتها اليومية، خاصة مداومتها على تفريط حبات الرمان، واحتساء شرابه المعقود بالسكر. 

  كان من عادات مريم أيضا أن تتطلع إلى أعالى الأشجار، وأن تراقب أنواع الطيور المختلفة، التى تحط على الأغصان، فتسارع بذكر أسماء الطيور، الواحد، تلو الآخر، كأنها معلمة تعلم تلميذتها الدمية الأسماء. المعلمة صغيرة لم تبلغ بعد السادسة من عمرها، إلا أن ذلك لم يمنعها من تمثيل دورها بطلاقة، والدمية هى الأخرى بارعة تجيد  الإصغاء، و الطيور على ما يبدو قد راقها الدرس اليومى، فراحت تحط بانتظام على الأغصان، لكنها سرعان ما  تعاود التحليق، فتشيعها «مريم» بعينين مبهورتين، حتى تختفي، وتذوب تماما فى زرقة السماء الشاسعة، وبينما هى كذلك، إذ خطرت لها فكرة، ماذا لو جربت أن تطير طائرتها الورقية للمرة الأولى؟! تلك الطائرة، التى صنعها أبوها خصيصا لها كهدية عيد ميلاد، رغم انشغاله طوال اليوم بالعناية بحقله، حقل الزعتر، أو كما يطلق عليه أهالى الضيعة «الذهب الأخضر»، ذلك المحصول، الذى تراه زاهيا فى سائر الحقول الممتدة على مرمى البصر بطول الضيعة، وعرضها.

 « مريم» تشد الخيط، فترتفع الطائرة شيئا فشيئا، وتراقص تيارات الريح، فتتماوج، وتعانق الضحكات الرنانة الصاعدة إليها من قلب البنت، التى لم تشعر بمرور الوقت، والتى انتبهت، فجأة على صوت أزيز هادر، سبق ظهور طائرة مروحية، شقت السماء، بغتة، وراحت تحلق بشكل دائرى فوق الدور والحقول، ولما كان الأطفال لا يغالبون فرحتهم عندما يرون طائرة حقيقية، تجوب الفضاء، راحت مريم تهتف بفرحة عارمة، فأفلتت الخيط من يدها، وانهمكت فى التلويح بكلتا يديها للمروحية، والطيار، الذى لمح البنت فى حديقتها تركض يمينا، ويسارا، وتقفز إلى أعلى، وتطوح ذراعيها فى الهواء بحماس، فارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة، و رفع يده بدوره، وما إن هوى بها، حتى دوى انفجار هائل، فتصاعد الغبار عاليا، وحجب الرؤية لدقائق. ولما انقشعت السحب السوداء، كانت أشجار الرمان المحترقة قد اقتلعت من جذورها، وسقطت جثثا هامدة، داخل الحفرة الواسعة التى ظهرت للتو. وكان محصول الزعتر، قد فقد خضرته، واستحال لونه إلى لون أسود، يشبه لون الفحم، بينما تناثرت قطع الأثاث بين حطام البيوت، واختلطت الأشلاء، والرءوس، والأطراف بعضها ببعض، فى حين التصقت بقايا. 

من لحم متفحم بركام الجدران. وهناك فى بقعة نفذ إليها الضوء على استحياء، كانت « مريم» تنام بلا حراك، بجوار دميتها المنتحبة. وقبل أن تغادر المروحية سماء الضيعة عاودت قصف الأنقاض، فدوى الصوت من جديد، بينما ظلت طائرة مريم الورقية تسبح فى فضاء معتم، مثقل بالدخان.