الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«زنوبيا».. التائهة بعيون الرقص المعاصر على مسرح الجمهورية

«بيدى لا بيد عمرو» قول مأثور تتبادله الألسنة على مر العصور، بينما لا يعلم كثيرون لمن ينسب هذا القول وما الموقف الذى استدعى صاحبته لأن تلقيه متحدية قبل الشروع فى الانتحار، يعود هذا القول إلى ملكة تدمر «زنوبيا» التى لقبت بـ»الزباء» من أقوى وأهم نساء التاريخ، عندما علمت بقدوم «عمرو بن عدي» لقتلها ثأرا لخاله زوجها الذى تآمرت عليه وقتلته، وهذه إحدى الروايات حول الغموض الذى أحيط بموتها، ألقت هذه العبارة قبل أن تتجرع السم من خاتمها لتنهى حياتها بيدها لا بيد عمرو.



تضاربت الروايات والأقاويل حول حادث مقتل ملكة تدمر، لكن الثابت عنها ما قيل فى وصفها كامرأة قوية شجاعة، شديدة الجمال صاحبة عزة وطموح وكبرياء، طموح وصل إلى حد تهديد الإمبراطورية الرومانية فى ذلك العهد، هى الزباء بنت عمرو بن الظرب بن حسان ابن أذينة بن السميدع، ويلفظ اسم «زنوبيا» بـ «بات زباي»، ولدت زنوبيا لأب من أصل عربى وام إغريقية فى عام 240 تتحدث لغتها الأصلية الآرمية، ويروى عنها أنها اتقنت عددا من اللغات من بينها اللغة المصرية القديمة والكتابة الهيروغليفية، والرومانية، تعلمت فى الإسكندرية ودرست التاريخ والفلسفة، كانت تتخذ الملكة كليوباترا السابعة مثلا أعلى لها، خاضت حروبا مثلها ضد الدولة الرومانية، بل وصفت نفسها أنها «حفيدة كليوباترا»، والتى سعت إلى الانتقام لها وإعادة أمجادها، عرفت فضلا عن جمالها وحدة ذكائها، بشجاعتها حيث خاضت حروبا عديدة لم يستطع الرجال فى حينها القيام بها.

شخصية ملهمة تدفع كل مخرج وكاتب لتقديم رؤية فنية وعمل يليق بهذا الثراء الذهنى والنفسى لامرأة هزت عرش روما، قررت المخرجة والمصممة كريمة بدير تناول تلك السيدة الملهمة فى عمل راقص مع فريقها فرسان الشرق التابع لدار الأوبرا على مسرح الجمهورية، ولأن الرقص أساسه الرمز والتعبير الحركى والإيماءة ربما لا يحتاج العمل إلى كتابة موسعة كما نرى بالأعمال الدرامية المعتمدة على الحوار، يعتمد الصراع هنا على الحركة والإحساس الداخلى لأبطال العرض مع رسم بعض الخطوط الدرامية البسيطة الموضحة لفكرة المخرجة أو هدفها من تناول هذه الشخصية بالذات، تبدأ أحداث العمل الراقص بلوحة لفتاة تبدو حزينة بائسة تسعى بجهد كبير إلى الانتحار بعد فشلها فى حياتها كما بدا أنها تحاول التخلص من جنين فى أحشائها، لكن يحدث ما يدفعها للانتباه عندما تمنعها إحدى الأرواح الهائمة للامتناع عن فكرة الانتحار، تستجيب الفتاة وتبدأ متابعة سرد قصة مراحل صعود وازدهار «زنوبيا» ثم سقوطها.

توالت لوحات العمل الراقص التى طغت فيه روح الضعف الأنثوى على إبراز شخصية «زنوبيا» المرأة المقاتلة المعتزة بأنوثتها الراغبة فى سيادة العالم.. لم تبرز هذه الروح على الأداء الحركى بالعمل الفني، بقدر ما سار العرض فى خط ينتصر لضعف الأثنى وليس لامرأة راجحة العقل مثلما تصفها الروايات التاريخية، فهذه السيدة حسبما ورد عنها كانت لا تقبل الاستسلام أو حتى الاعتراف بالهزيمة ويوم أسرها أبت أن تبدو عليها ملامح الذل والهوان وكانت تواجه غريمها فى شجاعة وقوة رغم انتصاره عليها، وبالتالى لم تكن فى حالة ضعف أو استسلام، كما ورد فى بداية المقال قررت قتل نفسها حتى لا يتمكن من قتلها أحد، هذه الملامح الشخصية شديدة القوة والكبرياء والاعتداد بالنفس لم يستوعبها الرقص سواء فى التصميم الحركى الذى لم يخرج عن نواميس التصميم المعتادة بعروض الرقص أو فى الكتابة الدرامية، فلم تمنح الجمل الحركية فى كثير من الأحيان هيئة واضحة لشخصية «زنوبيا» كما وصفها التاريخ بينما بدت بعيون الرقص المعاصر تائهه هائمة على وجهها وحائرة، فلم تسهم الرؤية الحركية فى رسم ملامح «زنوبيا» القوية المقدامة، وكذلك الكتابة الدرامية أو الرؤية التى أراد الكاتب محمد زنانى التشديد عليها بأن المرأة مهما بلغت قوتها وطموحها دائما ما يهزمها الحب ويجعلها متراخية متراجعة عن هذا الطموح وقد يوقعها فى الأسر، لم تناسب هذه الرؤية الفنية التى تبدو سطحية لتناول شخصية ثرية تاريخيا بحجم «زنوبيا»، فهذه المرأة فعليا لم يشغلها الحب بأى صورة من الصور على العكس تتهمها بعض الروايات التاريخية بالتآمر على قتل زوجها للفوز بالحكم، تلك الطموحة المحاربة على قدر جمالها الأنثوى إلا أنه لم يشكل نقطة ضعف فى شخصيتها، ولم يدفعها لحظة للتراجع عن تحقيق طموحها السياسي، للأسف لم يوفق الكاتب ومعه المصممة والمخرجة كريمة بدير فى رسم ملامح شخصية «زنوبيا» وكأنه أراد بهذه الرؤية لى ذراع الشخصية حتى تخدم فكرته الرئيسية إلا أن قوة الشخصية وحضورها التاريخى أوقع العرض فى فخ التسطيح، بدت رؤيته انهزامية فى تناول شخصية تاريخية لم تعرف الهزيمة إلا مع اقتراب وفاتها، فلا يمكن أن يتم تلخيص شخصياتها بعمل فنى يوحى بأن الحب هازم المرأة ومثبط عزيمتها وقاتل طموحها لا محالة حتى ولو كانت «زنوبيا»!

رغم هذه الأزمة التى شهدها العرض فى الكتابة والتصميم الذى لم يخدم الفكرة بعكس «حتشبسوت» العرض السابق والأكثر قوة ونجاحا، إلا أن المخرجة احتفظت بمهارتها فى تقديم لوحات جماعية ممتعة وفى مشهد رقصة الحمام على وجه الخصوص، ثم اكتملت المتعة بالإبداع فى اختيار عناصر الرؤية البصرية والمقطوعات الموسيقية من التراث الشعبى السورى ساهما بشكل كبير فى معايشة الجمهور والذهاب به إلى هذه العصور القديمة، أبدع أنيس إسماعيل فى تصميم الملابس فى لوحات الحمام وبأكثر من لوحة حيث ذهب بنا مع الأزياء التى تم اختيار ألوانها وتصميمها بدقة وعناية لتناسب أجواء وحالة هذا العصر، وكذلك قطع الإكسسوار المصاحبة للملابس، وقطعة الديكور التى وضعت فى عمق المسرح من الداخل تمثال ضخم لرأس «زنوبيا» حيث تم تفريغ المسرح بالكامل إلا من هذا التمثال الموحى بحضور روح هذه الشخصية فيه، يكفى ثبات رأس التمثال على المسرح وهو ما هيأ الجمهور بأنه على موعد مع مشاهدة عمل ثرى فنيا، اكتمل هذا الثراء البصرى بالإضاءة ثم الإعداد الموسيقى لأحمد الناصر، وفقت هذه العناصر السمعية والبصرية فى إضفاء حالة من المتعة والروح على العرض بعيدا عن الإخفاق فى صناعة الرؤية النهائية إلا أن هذه العناصر كانت الأكثر أثرا فى إمتاع الجمهور بعمل حضرت فيه «زنوبيا» بالتشكيل البصرى والموسيقى التراثية وبعض لوحات الرقص الممتعة.. بينما لم تحضر بقوتها الشخصية!