الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

100 عام على ميلاده

محمود مرسى.. العمـلاق الهـارب من التمثيـل

العملاق محمود مرسى هرب واختبأ باستديوهات الإذاعة وتوارى خلفها لسنوات طويلة وفضل أن يكون بينه وبين الجمهور مسافة وتردد فى الظهور السينمائى.  



وقال عن سبب هروبه: «منذ طفولتى لا أتحمل العيون التى تتابعنى لذلك أرفض التمثيل بالمسرح، وحين مثلت فى المدرسة والجامعة، فى كل مرة عندما انتهى من التمثيل أنزل من خشبة المسرح وأحس بألم فى كل أجزاء جسمى وينتابنى نوبة من الشعور بالتعاسة، ارفض أكون محط الأنظار، لا أريد أن أكون ممثلا أفضل أن اتجه للإخراج». يبدو ان العملاق خجول والمفارقة أن تكون أول أفلامه فيلم «أنا الهارب». 

ضمن الإصدارات التوثيقية لمهرجان الإسكندرية السينمائى لدول البحر المتوسط، الدورة الـ 39 الذى تنظمه الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما ويرأس مجلس إدارتها الناقد الفنى القدير «الأمير أباظة» الإصدار تحت عنوان «محمود مرسى- العملاق» للكاتب «وليد سيف» أستاذ النقد السينمائى بأكاديمية الفنون. وذلك احتفاء بمئوية ميلاد الفنان الكبير محمود مرسى (1923 – 2004).

وعن مصادر توثيق ذكر الكاتب أن لمحمود مرسى طوال مشواره الفنى الذى يزيد عن نصف قرن لم نجد له حوارا صحفيا أو برنامجا تلفزيونيا إلا فيما ندر، عاش حياته عازفا عن الأضواء.

اما مسيرته الإذاعية كممثل ومخرج فكانت هى الاصعب فى الرصد لانها لم تعد متوفرة رغم انها المرحلة التى كشفت موهبته وصنعت شهرته قبل ظهوره السينمائى الاول. 

ارتكز الكاتب على أدواره السينمائية حيث تناولها بالرصد والتحليل النقدى وكشف عن جماليات أدائه التمثيلي، وملامح تفرده فى التشخيص. كما أشار إلى أعماله بالدراما التليفزيونية والنقلة من أقصى الشر إلى أقصى الخير، من عتريس إلى أبو العلا البشرى.

البدايات

ابن الإسكندرية طفل ضئيل الحجم خجول عاش طفولة قاسية بعد انفصال والديه، والده نقيب المحامين بالإسكندرية بالعشرينيات، إلحاقه بالمدرسة الداخلية للغات وإتقانه للغات المختلفة الإنجليزية والإيطالية والفرنسية جعله يدرك نظرة الأجانب المقيمين المتعالية للمصريين. توفى والده وهو بعمر الثالثة عشرة فترك أثرا فى نفسه بعدم أمان وقلق ظل ملازمه طوال حياته على حد قول محمود مرسى. وعلى جانب آخر يحتفظ بذكريات طيبة مع زوج أمه.

وبانتقاله لمدارس مصرية وطنية احترف التمثيل بالمسرح المدرسى، وواقعة غربية أن زملاءه رشحوه لدور «لويس الحادى عشر»، ولا يعرف مرسى دوافع زملائه لهذا الترشيح. ربما يرجع إلى إتقانه للغة العربية ووجهه المعبر بالتأكيد زملاؤه وجدوا فيه طاقة لم يكشفها هو بنفسه.

والتحق بكلية الآداب جامعة إسكندرية قسم فلسفة وابتعد عن التمثيل فى السنوات الأولى بالجامعة. واختاره الممثل والمخرج جورج أبيض ليلعب دور «أوديب» لفرقة مسرح جامعة الإسكندرية وتعلم منه أداء أقرب إلى منهج «ستانسلافسكي». وأشاد بأدائه للدور الكاتب الكبير د. طه حسين رئيس جامعة الإسكندرية.

الإذاعة الفرنسية

استقال من عمله كمدرس للفلسفة والتاريخ والجغرافيا والإنجليزي، وقام ببيع ورثه ليحقق حلمة بدراسة الإخراج، عام 1951سافر فرنسا درس الإخراج بمعهد الدراسات العليا السينمائية (الإيديك). عاش بها خمس سنوات والتحق بالإذاعة الفرنسية وعمل بالقطعة يقدم ملخصات وتحليلات للأفلام المصرية.

وخلال عامى 56،55 قبل العدوان الثلاثى على مصر سادت حالة من الكراهية تجاه مصر وجمال عبد الناصر، ورفض قراءة مقالات باللاذعة الفرنسية ضد مصر. وحين علم الفرنسيون بأنه ينوى الانتقال إلى الإذاعة البريطانية «BBC»، تم طرده هو وكل المصريين من الإذاعة الفرنسية. وبراديو لندن أذاع خبر تأميم قناة السويس بنزعته المصرية الوطنية. اندلعت حرب 56 بعد تعيينه بسبعة شهور قدم استقالته وعاد إلى القاهرة، عاد بلا مال ولا عمل وتحدثت عنه الصحف المصرية هو وسبعة مذيعين أنهم رمز للوطنية. 

الإذاعة المصرية

استقبلته القاهرة بعد موقفه الوطنى وتم تعيينه بالإذاعة المصرية بإدارة المنوعات وقدم عدة برامج عن كبار الفنانين وانتقل بعدها إلى البرنامج الثقافي، وأخرج ومثل بالإذاعة العديد من المسرحيات العالمية، أعمالا تعد من كنوز الإذاعة المصرية وما زالت بعضها يذاع، واستعان كمخرج بكبار الممثلين منهم: حسين رياض، عبد الرحيم الزرقاني، عبد الوارث عسر، وآخرون. أرسلته الدولة لدراسة الإخراج التلفزيونى فى روما، وحين عاد حصل على إشادة كبيرة من الرئاسة على الأعمال التى أخرجها، إلا أنه اختلف مع وزير الإعلام بسبب انحياز مرسى للكيف وليس الكم، وترك وظيفتيه بالإذاعة.

كرة التمثيل

كان سيكون أحد أبطال فيلم «باب الحديد» رشحه يوسف شاهين لدور زعيم الشيالين ويقال إنه رفض بسبب الأجر، وذهب الدور لفريد شوقى كما رشح شكرى سرحان لدور قناوى. عن مطاردة التمثيل له قال مرسى: «أنا لم أفكر ولم أرغب فى أن أكون ممثلا، ولكن كتب عليّ التمثيل كما لو كان قدرا لا فكاك منه، وكل ما كنت أهرب منه أفاجأ به يحاصرنى من جديد، التمثيل أقرب إلى الكرة اقذفها بعيدا لكنها ترتطم بجدار فتعود لى بذات القوة». واستسلم لقدره حين منحه المخرج نيازى مصطفى أول أدواره السينمائية بفيلم «أنا الهارب» 1962. 

أنا الهارب

برؤية تحليلية للكاتب: «ظهر اسمه على عناوين الفيلم يسبق يوسف شعبان وصلاح منصور رغم أن كليهما كانت له بدايات سابقة. جسد شخصية» عرفان «السجين منذ الإطلالة الأولى كشف عن صورة ذهنية للشخصية تنبع من ملامح معبرة عن الذكاء وقوة الشخصية تضفى حضوره مهابة. وعلى رغم صغر مساحة الدور كبطل ثان إلا أنه اثبت بحضوره الطاغى ثقل الشخصية، كان عملاقا من أول أدواره.

وأضاف الكاتب: إن محمود مرسى فى بدايته كممثل بالسينما واقف برسوخ مستفيد من خبرات وتجارب الحياة والفن، كشف ذلك الاستفادة فيما بعد فى أدواره سينمائيا وتلفزيونيا حيث إجادة فن الإلقاء والحفاظ على وضوح النبرات ومخارج الألفاظ والتمكن من التلوين الصوتى فى إطار الجملة والمونولوج والمشهد.

وأيضا تجربته بالتلفزيون إفادته فى التعامل مع الكاميرا وأدراك أهمية اقتصاد التعبير الحركي. إلا أن نجاحه الكبير بهذا الدور كان سببا فى محاولة قولبته فى أدوار الشر لبعض الوقت، لكنه استطاع أن يخرج منه بأدوار متنوعة تناسب قدراته، وظهرت موهبته فى فيلميه التاليين.. «المتمردة والباب المفتوح». 

الليلة الأخيرة

بداياته الجادة كانت مع المخرج كمال الشيخ الذى اعتبره مرسى ضمن أهم المخرجين الذين تعامل معهم. «الليلة الاخيرة1963 رابع أفلامه وتدشينه بطلا ونجما سينمائيا متفردا، قدم شريرا من نوع خاص وغريب، شريرا يمتلك توظيف الذكاء فى أعمال الشر. 

يوهمك بتصديقه من خلال نبرات صوته وحركته المنضبطة فى مراحل ما من الفيلم. لكن فى مراحل أخرى يزرع فى قلب المشاهد الشك من خلال التلعثم فى التفاصيل الدقيقة للحركة المنفلتة بحساب صارم. وحصل عن دوره على جائزة التمثيل الأولى عام 1964.

وانطلق بعدها بطلا وبطلا مشاركا فى العديد من أفلام الستينيات: أمير الدهاء، العنب المر، الخائنة، ثمن الحرية، الليالى الطويلة، السمان والخريف أول لقاء مع أدب نجيب محفوظ وشخصية» عيسى الدباغ «يضيف فى كل لقطة ما يجعلنا نفهم أبعاد الشخصية الاجتماعية والنفسية والعصبية. 

وفيلم فارس بنى حمدان 1966 وهو أحد الأفلام المنسية فى ذاكرة السينما وفى أدواره السينمائية. 

عتريس السينما

«شىء من الخوف» 1969 الفيلم الايقونى بتاريخنا السينمائى المأخوذ عن عمل أدبي للكاتب ثروت أباظة، جسد فيه شخصيات مركبة ذات الأبعاد النفسية المعقدة لشراء موروث ومتراكم من خبرات حياتية. الجد بتركيبته الإجرامية، والحفيد وريث الطاغية، وهو ذاته أيضا الحفيد العاشق. عتريس شخصية كتب لها مرسى الخلود ليس فقط فى تاريخ السينما بل أيضا عند الجمهور. وحصل 1969 على جائزة التمثيل الأولى عن دوره.

نجومية بلا شباك

دخل عالم السينما بعمر يقترب من الأربعين عاما، قدم 25 فيلما ويعد عددا قليلا نسبيا، منهم ستة أفلام ضمن قائمة أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية هما: السمان والخريف- شيء من الخوف- زوجتى والكلب- أغنية على الممر- ليل وقضبان- أبناء الصمت.

أدواره المهمة بالسينما بفترة الستينيات والسبعينيات وتعد الفترة الذهبية له، وذلك بسعى الدولة لتقديم إنتاج سينمائى وطني. أعماله التلفزيونية زادت فى الثمانينيات والتسعينيات، ربع أفلامه من روائع السينما وهذا يدل على دقة وحسن اختياره وارتباط اسمه بأعمال ذات قيمة حرصا منه على الكيف وليس الكم.

تنوعت أفلامه بين الدراما النفسية مثل الليلة الأخيرة وزوجتى والكلب، والطابع الشعبى واللمسة الأسطورية مثل أمير الدهاء، والطابع التاريخى الدينى مثل فجر الإسلام، والطابع الوطنى والسياسى فيلم ثمن الحرية، وفيلم أغنية على الممر، وأبناء الصمت. 

ومن روائع أدب نجيب محفوظ قدم الشحاذ و«السمان والخريف». وبفترة الثمانينيات قدم فيليمين هما: سعد اليتيم، وحد السيف، وآخر أفلامه الجسر 1997.

وعن النجومية قال مرسى: «مش مهم الناس تنسانى المهم أنها تفتكر الشخصيات التى لعبتها... ما حبش حد يبصر لى لكن يهمنى أنه يبصر لعملى وبس... مش مهتم أبقى نجم شباك لكن مهتم بعملى يوصل للناس، ومش مهتم اعمل دعاية لعملي، العمل يقدم نفسه بنفسه، ومقاطع الصحافة توفيرا لطاقتى الذهنية والبدنية». 

عملاق الدراما التلفزيونية

اخرج فى بداياته عددا من المسلسلات منها: القط- عن قصة لإحسان عبدالقدوس، وزوجة وسكرتيرة، وأم أولادي، وسهرة الحب الكبير 1962 هما من بواكير الإنتاج الدرامى لتلفزيون. إلى جانب الإخراج كتب لهما السيناريو بمشاركة فؤاد القصاص.

ومن أعمال الدراما: دخان الجريمة، مأساة الدكتور حسني، إنى راحلة، الليلة الموعودة. زينب والعرش، الرجل والحصان، من يدفع الثمن، صعود بلا نهاية، المحروسة، سفر الأحلام، سكة رجوع، رحلة السيد أبو العلا البشرى الرجل النبيل الفاضل الدونكيشوتى شخصية لا تنسى فى تاريخ الدراما المصرية.

اما مسلسل «العملاق» من افضل أعمال السير الذاتية بالدراما جسد شخصية الكاتب الكبير عباس محمود العقاد. ويتسأل الكاتب: «لا اعرف ماهو سبب فى تجاهل العمل وعدم اعادة عرضه حتى كاد يطويه النسيان». وعملان سبق ان قدمتهم السينما قدمهم للتلفزيون: بين القصرين، وقصر الشوق. وبمسلسل «عصفور النار» انتقل إلى ادوار الوداعة وقدمها بذات الدرجة من الاقتدار الذى عبر بها عن اقصى درجات الشر بالسينما.

وبالتسعينيات قدم العائلة، ابو العلا 90 الجزء الثانى من رحلة ابو العلا البشرى. وبعد ان ارتبط اسمه بتقديم شخصيات مثالية عاد وقدم شخصية نصاب بمسلسل اجتماعى كوميدى «لما التعلب فات» مع يحيى الفخرانى. رحل عن عمر 81 عاما اثناء تصوير مسلسل «وهج الصيف» 2004.

باعتباره عاشقا لميكروفون الإذاعة ترك تراثا إذاعيا كممثل حوالى 28 عملا منها: شعاع الحرية، الشحاتة، صباح الخير يامولاى، المال والحب والشيطان، أنا وأنت وسنوات العمر، وتمضى الايام، كل هذا الحب، قاهر الظلام... وغيرها 

الوصية 

الفنانة القديرة سيدة المسرح سميحة أيوب زوجته الوحيدة وأم ابنه الطبيب علاء مرسى قالت عنه.. إنه كان إنسانا زاهدا فى كل حاجة ومالوش أطماع ولا يحب الاستعراض، وحين رفض جائزة الدولة التقديرية قال إن فى ناس أحق منه، وظلت بينهما مساحة صداقة رغم انفصالهما. ولم يقل لها يوما كلمة جارحة انفصلا بهدوء ومات بهدوء دون أن يزعج أحد. وكانت وصيته ألا تكون هناك جنازة وأن يعلن خبر وفاته بعد إتمام دفنه، ونفذت الوصية.

إعداد الممثل

شارك بالتدريس بمعهد السينما إلى جانب معهد الفنون المسرحية وقام بترجمة كتاب (إعداد الممثل) للمخرج الشهير «ستانسلافسكي» بمشاركة زميلة محمد زكى العشماوى الكتاب المقرر على جميع طلبة المعاهد المسرحية بمصر.

وعن جوائز الدولة رفض الترشيح للفوز بجائزة الدولة التقديرية1995 لأنه يرى أن الممثل ليس مبدعي، أن تلك الصفة تتنطوى على المؤلف والمخرج، لان الممثل لا قيمة له دون مؤلف ومخرج مبدع. إنه لا يرى نفسه ممثلا عظيما أو عملاقا هو جيد، وإن تشبيهه بهذه الصفات الكبرى ما هو إلا دليل على تواضع المستوى الفنى حولنا. وعام 2000 وافق على التكريم على العطاء الفنى طوال تاريخه وليس على عمله كممثل فقط.

يرفض فكرة الظهور كضيف شرف فى أى عمل، وقال: «حكاية ضيف شرف فى منتهى السذاجة، ولا يقبل بها فنان محترم، لأنه بذلك يكون «عامل» باليومية مثل النجار أو السباك».