الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

البؤساء بين التمثيل الدرامى وبراعة اللعب بالعرائس البشرية

«ما دامت مشكلات العصر الثلاث.. الحط من قدر الرجل باستغلال جهده، وتحطيم كرامة المرأة بالجوع، وتـقـزيم الطفل بالجهل لم تحل بعد، ما دام الاختناق الاجتماعى لا يزال ممكنًا فى بعض البقاع، وبكلمة أعم ما دام على ظهر البسيطة جهل وبؤس، تكون هناك حاجة إلى كتب من هذا النوع»..تعددت الرؤى الفنية وأشكال التناول المسرحية والسينمائية للرواية الأشهر فى تاريخ الأدب الفرنسى «البؤساء» لكاتبها فيكتور هوجو، قدمت الرواية بأشكال متنوعة ما بين مسرح وسينما بأنحاء العالم وتبارى صناع تلك الأعمال فى تقديمها بديكورات وميزاينات صخمة لصناعة صورة مسرحية أو سينمائية عالية الجودة تداعب خيال المتلقى عن واقع عاشته فرنسا فى القرن التاسع عشر، بين جماليات الصور وتعدد الرؤى الفنية خضعت «البؤساء» لمنافسة شرسة فى مدى تفوق كل عمل عن الآخر بضخامة عناصر الإنتاج الفنى.



على الرغم من تكرار تناول الرواية كما سبق وأن ذكرنا إلا أن المخرج الشاب محمود جراتسى كانت له حساسية جمالية أخرى فى أسلوب التناول، لعب جراتسى على الرمز والتعبير البصرى ثم مغازلة فكر المتلقى عن طريق سرد أحداث الرواية باستخدام مجموعة من العرائس البشرية التى تصاحب الممثل وكـأنها جزء لا يتجزأ من تكوينه الجسمانى، بدلا من اللعب على تصميم ديكورات ضخمة والصور المبهرة للاقتراب من شكل الحياة فى فرنسا بذلك الوقت، جاء الإبهار من بساطة وذكاء الطرح الفنى والحرفة العالية فى فنون التحريك والأداء التمثيلى.

«البؤساء»..تتناول شدة البؤس وألعاب القدر القاسية التى أحاطت طبقة الفقراء بفرنسا بعد سقوط نابليون، عن قصة جان فالجان الرجل الذى حكم عليه بالسجن عشرين عاما لاتهامه بسرقة رغيف من الخبز يخرج من السجن فى حالة يرثى لها، يعطف عليه أسقف فى إحدى الكنائس حيث يسضيفه ليلة للمبيت بينما يسرقه «فالجان» ويتم القبض عليه مجددا، ينفى الأسقف تعرضه للسرقة ويهدى إليه الشمعدانات الفضية التى طمع فيها وهو ما يفتح له أبواب الثراء ليبدأ حياة جديدة ويصبح سيدا مالكا لأحد المصانع ينقذ إحدى العاملات بالمصنع «فانتين» التى تتعرض للظلم والاضطهاد لإنجابها طفلة غير شرعية تطرد من مصنعه وتضطر لبيع شعرها وحتى أسنانها للوفاء بأعباء معيشة طفلتها، وبعد وفاتها يتبنى فالجان ابنتها «كوزيت».

هذه الأحداث المتلاحقة التى تتناول إحدى فترات القهر للطبقة الدنيا بفرنسا والتى صورها الكاتب فى أقسى وأبشع درجات البؤس والظلم لهذه الطبقات اليائسة من الحياة، ألهمت هذه القصة الحزينة المخرج الشاب لطرحها بشكل آخر غير متداول لهذا النوع من الروايات الغنية بالأفكار والأحداث التراجيدية القاتمة، جمع جراتسى وفريق عمله من الشباب بين الكوميديا السوداء والرمز باللعب بتلك العرائس البشرية التى أخذت هيئة هؤلاء البائسين المظلومين الواقعين تحت أسر السلطة الباطشة، فى تصوير بديع لهذه الحالة من الأسر والتلاعب بمصائر هؤلاء البائسين أصبحوا مجموعة من العرائس المتحركة فى أيدى الظالمين، صنع التشكيل البصرى بالعرائس المحمولة على اختلافها وتنوعها صورا جمالية بديعة بجانب الرمز الذى استخدمه المخرج فى صياغة معان تعبيرية.

تشكل العروسة قيدا فى حد ذاتها على هذا البطل فالجان طوال فترة سجنه وأثناء ما يعانيه من ضيق الحال هو ومن حوله بالرواية، حيث يظل لعبة فى يد الأقدار التى تحركه كيفما تشاء وبالتالى يرتدى ويتمثل فى ثياب تلك العروسة التى يتقيد بها طالما حاله فى ضيق واحتياج، يلقى به القدر فى ظروف قاسية إلى أن يتحرر من ذلك القيد وهذا الأسر المتكرر من عسر وفقر بعد أن أصبح سيدا وصاحب أملاك نال حريته، وكأن الفقر قيد على رقبة صاحبه يجعله لعبة فى أيدى أصحاب السلطة والنفوذ والأموال، يأتى تشكيل فني آخر أكثر رمزية وأعمق بعدا فى وصف الجهل وسلب العقل لعاملات المصنع مقطوعات الرأس هكذا بدين بينما اختبأت رءوسهن داخل الثياب، ومشرف العمال الذى استبدلت رأسه بحذاء فى تعبير كاريكاتورى بليغ عن رعونة تصرفه، تشكيل فنى شديد الروعة والإبداع فى استخدام الرمز عن الحياة التى يحياها هؤلاء البائسون بلا عقل، فلم يتوقف البؤس عند الفقر وحده بينما تعددت أشكاله فى ذهاب عقول هؤلاء وخروجهن عن حدود الإنسانية، واستغلالهن كتابعين بما يضمن لهن البقاء على قيد الحياة حتى ولو تجردوا من آداميتهم وهيئتهم البشرية وأصبحن مجرد كائنات ممسوخة بلا ملامح، من هذا المسخ صنع المخرج تشكيلات جماعية وفردية منحت للعمل بعدا فكريا وبصريا غير متكرر.

       طرح استثنائى يقدمه جراتسى لرواية البؤساء المزدحمة بالأفكار والتفاصيل بداية من اللوحة الأولى للعرض التى تخبرك بأنك على موعد مع تناول مختلف وغير تقليدى لهذه الرواية الأشهر، منضدة صغيرة يصطف عليها مجموعة من الأفراد فى مشهد سريع الإيقاع والحركة أشبه بحركة ريشة رسام الكاريكاتور فى التجسيد والسخرية من أوضاع اجتماعية بائسة، مجموعة من الأفراد يتظاهرون بصناعة الخبز بإيقاع حركى سريع وآخرون يحملون عرائس صغيرة وكأنهم على موعد مع رواية القصة بمنطق الحكواتى حامل العرائس ثم تبدأ أحداث الحكاية.. فإذا كان هوجو قدم نقدا لواقع عنيف يعيشه فقراء فرنسا فى تلك الحقبة من الزمن أضاف جراتسى بعمله الفنى رسما آخر لهذه الرواية وكأنه يعيد قراءتها قراءة تشكيلية فى لوحة بديعة تعددت فيها أسباب البؤس، حمل هذا الطرح لوحات جمالية على مدار السرد الدرامى لأحداث الرواية والذى جمع فيه بين فنون العرائس والتعبير الحركى والأداء التمثيلى من هذا الخليط نتج عملا يحمل متعة فنية خالصة، متعة بصرية وأخرى فكرية فى التشكيل الغنى بالرمزية والمعانى الإنسانية، تجردت خشبة المسرح من الديكورات الضخمة واعتمد فقط على حركة العرائس وأشكالها المتنوعة  مع وضع عرائس صغيرة متناثرة فى خلفية المسرح من الداخل، مجموعة من العرائس المعلقة مثل أصاحبها المعلقون فى يد القدر وكأنها هياكل لبقايا من البشر!

شارك فى بطولة العرض مجموعة من الشباب الواعد الذين شاركوا المخرج المهارة والذكاء فى الطرح الفني، حيث تنوع أداء هؤلاء المميز بين الأداء التمثيلى وفن التحريك لهذه العرائس البشرية والذى يحتاج نوعا آخر من التدريب بجانب التمثيل على المسرح، ليس سهلا أن يوزع الممثل تركيزه وجهده بين التمثيل وأداء شخصية بأبعاد جان فالجان وبين تحريك العروسة أمام الجمهور ثم لحظات التخلص من العروسة وقت تحرره والعودة إليها فى بعض الأحيان بلياقة بدنية وفنية تمتع بها الممثل الشاب فادى رأفت فى تجسيد هذه الشخصية بتلك الصعوبة والأبعاد المسرحية الجديدة التى أضيفت لها لتمنحها معنى أقوى وأعمق، قد يربك الممثل انشغاله بالتحريك والأداء الصوتى للعروسة بينما تمكن فادى من التحرر من هذا الارتباك وأتقن فن التحريك والأداء التمثيلى بتلك العروسة ثم أداءه بعد التحرر منها مهارة تتطلب مستوى أعلى من الاحتراف أتقنه رأفت بجدارة فى بطولة «البؤساء»، شاركه هذا الاتقان وتلك المهارة زملاؤه بداية من اللوحة الأولى للعرض فى فنون الحركة والتحريك واللعب بالعرائس منهم هدير عاطف، يوسف حسام، ميرنا أحمد، مينا مجدي، محمد أبو العلا، يوسف الصيدي، نغم طه، مادونا عماد، عمر فتحى، محمد رضا، تصميم ملابس هجير عاطف، عرائس رنا شامل، موسيقى إسلام علي، إضاءة أحمد طارق مدرب تحريك عرائس مهند المسلمانى، شارك العرض بمهرجان المنستير الدولى للمسرح الجامعى بتونس وحصل على جائزة أفضل عرض وأفضل إخراج وأفضل سينوغرافيا وجائزتى تمثيل، ثم ملتقى القاهرة الدولى للمسرح الجامعى وحصل على أفضل عرض وأفضل إخراج، ومهرجان مسرح بلا إنتاج الدولى بالإسكندرية وحصل على جائزة أفضل حلول خلاقة وجائزتى تمثيل، وحصل بمهرجان جامعة عين شمس على جائزة فى الإخراج والديكور والتمثيل، كما شارك على هامش مهرجان الهيئة العربية للمسرح بالعراق.