الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أيام مع أهل الله من ساحة الأحمدية شمالا إلى حميثرا وأسد الصعيد جنوبا

الصوفية.. «مقامات» الوجد والوصول

مسجد ومقام أبوالحسن الشاذلى فى حضن جبال حميثرا
مسجد ومقام أبوالحسن الشاذلى فى حضن جبال حميثرا

كتابة وتصوير - أحمد رزق  



«تجليات الصوفية».. لم تكن معرفتى بها إلا فى إطار عام لا يتجاوز مصطلحات المريدين وأحيانًا الزى الخاص بهم، وبعض المفاهيم نحو المعرفة المطلقة والتجليات التى تشرق فى الذات الإنسانية وراء تنقية النفس، ومبتغى السالكين فيها الوصول إلى الحق بالشوق والمكابدة وكانت الدعوة من إحدى الطرق الصوفية لزيارات أشهر شيوخها وأقطابها سبيلًا لا يرفض للوقوف على أحوال الصوفية وقبسًا سريعًا على السالك فى رحلاته ولعل عبارة «ليس الطريق لمن سبق ولكن الطريق لمن صدق» كانت منطلق الرحلة إلى أولياء الله بدعوة كريمة من إحدى الطرق الصوفية لزيارة مقامات أقطاب الطريقة الشاذلية وهى الأكثر انتشارًا والذى يبلغ عدد مريديها فى مصر فقط أكثر من 8 ملايين شخص وتنسب إلى شيخها أبوالحسن الشاذلى وهو على بن عبدالله بن عبدالجبار الشاذلى - بضم الذال وتشديد الياء - المغربى المولد الذى سافر إلى تونس وتعلم فيها الفقه وآداب اللغة ومنها إلى مصر، حيث استقر فى الإسكندرية ليلقى دروسه فى مسجد العطارين ليلقى ترحيبًا وحفاوة من أهلها وأشهر تلاميذه أبوالعباس المرسى وابن عطاء الله السكندرى.

انطلقت رحلة الزيارات من مقام أحمد البدوى بمدينة طنطا والذى حضر إلى مصر قادمًا من العراق لنشر الطريقة الرفاعية وسرعان ما اتخذ لنفسه طريقة خاصة وكانت الساحة الأحمدية ملتقى المريدين وبدأنا من هناك الرحلة باتجاه محافظة البحر الأحمر وتحديدًا وادى عيذاب، حيث يقع مقام القطب الأكبر أبوالحسن الشاذلى المدفون بجبال حميثرا وكان برفقته تلميذه أبوالعباس المرسى بطريقهم للحج – كانت حميثرا الطريق القديم لعبور الحجاج إلى المدينة المنورة – اخترقت الحافلة عبر المسيرة طريق الجلالة – مرسى علم والذى شق حديثًا فى جبال الزعفرانة ليختصر الطريق الذى يبلغ أكثر من 1200كم.

استقبلنا أصحاب الرحلة فى البداية بنظرات الفضول، حيث اختلاف المظهر والتباين الشديد فى منطوق الكلام وأعنى بها العبارات المكررة للمريدين الصوفية تختلف عن الفقه فى سلوك المريد وطرق تربيته، بالإضافة إلى شهرة أتباعها بالذكر المفرد «الله» أو الذكر المضمر وهو ترديد ذكر «هو»، وتختلف أفكار الصوفية عن أفكار العامة والفقهاء رغم ثبات المسميات، والتى تضم التوبة والإخلاص والنية والخلوة والذكر والزهد وصولًا لتنقية النفس وتقواها، وترتكز الصوفية إلى المحبة وتكرار ذكر المحبوب، أما طريق الإيمان بالله وعبوديته فيكون عن طريق «الذوق» وهو تلقى الأرواح للأسرار فى الكرامات وخوارق العادات.

وصلت الرحلة إلى حميثرا بعد يوم كامل من السفر، حيث توقفت أكثر من مرة لأداء الصلوات قصرًا وجمعًا.

النزول بحميثرا

لا يهتم المريدون بمكان نزولهم، «ففى حميثرا كل الأمور ميسرة».. وبالفعل استقبلتنا الساحات الصوفية بالترحاب وكأننا أهلها العائدون إليها، يوجد بحميثرا العديد من الساحات والتى أنشأتها الجماعات الصوفية ويشرف عليها ويديرها شيخ الطريقة وتتكون من ساحة كبيرة لالتقاء الأتباع لتلقى الدروس من الشيخ، ومقام منشئ الساحة ومسجدين منفصلين أحدهما للرجال والآخر للنساء وحجرات عديدة لإقامة المريدين وملحق بالاستراحة مطبخ مجهز وحجرة للطعام والذى غالبًا ما يكون بسيطًا، فكثرة الطعام عند الأتباع تثقل القلب والبدن، فالزهد إحدى مراتب المريد.

مسجد عبدالرحيم القنائى وضريحه
مسجد عبدالرحيم القنائى وضريحه

 

الجامع الكبير

مسجد وجامع أبوالحسن الشاذلى وهو أول مساجد محافظة البحر الأحمر هو المقصد الأول للمريد ويتجه إليه سنويًا الآلاف من التابعين من مصر والعالم، فشاهدت هناك أكثر من مائة طالب وطالبة دراسات عليا أزهرية قادمين من دول شرق آسيا، تم تجديد المسجد ليعاد افتتاحه وتبلغ مساحته أربعة آلاف متر، والذى تم تصميمه على الطراز المغربى ..  يستقبلك مدخل المسجد بقبة الضريح ثم الجامع بما يشمله من مصلى وميضة للوضوء، يحتضن المسجد جبال وادى حميثرا وكانت أنوار مكة قديمًا تظهر للواقفين فوقها.

الحضرة

الذكر أهم طقوس المريدين الذين يجتمعون فى حلقة توسطها الشيخ والتى تبدأ وتنتهى بقراءة آيات من القرآن وتتوسطها الصلاة على النبى وآل البيت وتلاوة الأوراد الخاصة بالطريقة والتى يقودها الشيخ كمايسترو ماهر يقود فرقته بكل حواسه وجسده ليعلو صوت الورد مع ارتفاع يده وينخفض مع خفض يده وتتباين النغمات مع حركات الجسد لتبلغ مداها مع ذكر «الله».

زيارة الأضرحة وحضور الموالد

 

 

على عكس السلفيين الذين يرون أن زيارة الأضرحة والتوسل بأولياء الله أو الطعام عندهم كل هذا لا يجوز بل إن الاستغاثة بهم شرك أكبر، أما الصوفية فترى أن زيارة قبور آل البيت والأولياء مشروعة بالكتاب والسنة من كتاب الله والقرآن الكريم: «قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدًا»، (الكهف 21)، فجعلت الآية بناء المسجد على قبور الصالحين التماسًا لبركتهم وأثار عبادتهم أمرًا مشروعًا، أما عن حضور الموالد فإنها امتداد لسنة رسول الإسلام فحين دخل مكة فاتحًا دخلت الجموع حوله مكبرة ذاكرة لاسم الله فكبار الأولياء ومنهم أبوالحسن الشاذلى كان حريصًا على الاحتفال بالمواسم الدينية فكان يسير وحوله مريدوه رافعين الرايات من أجل إحياء المواسم الروحية فى نفوس العامة.

فالصوفى يخلص إلى حقيقة واحدة بأن جوهر الإسلام الصحيح فى إخلاص العبودية وهو ما يعنى صفاء النفس وسلوك طريق الإيمان والاخلاص والبحث عن الدرجات العليا فى التقرب إلى الله واستحضار ذكره فى كل وقت فلن يهتم بمعصيته ولن يأمر بمنكر ولن ينهى عن معروف وهو ما يفسر ابتعاد المتصوفين عن التطرف الدينى وما ينبت عنه من تكفير للمجتمعات والإرهاب الفكرى والعقائدى للمجتمع وما يتبعه من خراب يثيره المنحرفون.

العــودة 

اختلف طريق العودة، فاتخذت الحافلة بعد مرورها بمرسى علم طريق إدفو - الذى يبلغ طوله 400 كم- لتبدأ رحلة أخرى من أقصى جنوب مصر مرورًا بمحافظات الصعيد لنعبر الطريق بصحبة نيل أسوان لنحل فى الأقصر، حيث مقام العارف بالله «أبوالحجاج الأقصرى» وهو يوسف بن عبد الرحمن بن عيسى المولود ببغداد وهاجر إلى الإسكندرية ليلتقى شيوخ الطرق الصوفية الشاذلية والرفاعية ويتتلمذ على يد الشيخ الجازولى ليعود إلى الأقصر وتحديدًا مجلس علمه ومحل اعتكافه بمعبد الأقصر وأشهر ما ترك من تراث شعره فى التوحيد، توفى أبوالحجاج فى الأقصر، حيث بنى مقامه ومسجده ملاصقين لمعبد الأقصر والتى امتزجت حيطانه ببقايا أعمدة فرعونية..وهو ما يدل على سماحة الإسلام والتصوف تجاه الأديان والحضارات الأخرى .

 

 

المقصد التالى للرحلة محافظة قنا، حيث مقام العارف بالله «عبد الرحيم القنائى» وهو أحد أقطاب الطريقة الشاذلية، حيث تتلمذ أيضًا على يد الشيخ الجازولى بالإسكندرية والتى التقى فيها أبا الحجاج الأقصرى قبل إقامته بالأقصر.. زرنا مقام أبى الحجاج بمسجده وسط مدينة قنا والمعروف باسم «مسجد أسد الصعيد»، وهو اللقب الذى اشتهر به القنائى، وتوجد فى مدخل المسجد لوحة تذكارية مكتوب عليها «تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك الصالح فاروق الأول، فأرسى بيده الكريمة الحجر الأساسى لبناء المسجد المبارك فى مارس عام 1948» يضم المسجد ساحة كبرى للصلاة وقبالة مدخله مقام العارف بالله وبجانبه بعض مقامات تلاميذه وأمام المسجد حديقة كبيرة لاستقبال أتباع الشيخ خاصة وقت الاحتفال بمولده كل عام.

فى الساعات الأخيرة للعودة كانت الأحاديث مع أصحاب الرحلة من الأتباع والمريدين أكثر ودًا وترحابًا من جانبهم، فقد كانوا أهلًا للصداقة وطيبة القلب وصدق النفس مع الآخرين، آملين جميعًا فى لقاءات مقبلة فى القاهرة ليختموا رحلتهم إلى مدينة طنطا.

أبوالحسن الشاذلى

 

 

روايات الكرامات عن أقطاب الصوفية كثيرة لعل أشهرها أن أبا الحسن الشاذلى طلب من المرسى أبوالعباس تلميذه وزوج ابنته إحضار كفن وحنوط فى رحلتهما إلى الحج وبسؤال المرسى لشيخه عن السبب كانت مقولته الأشهر: «فى حميثرا سوف ترى» وبالفعل توفى الشيخ الشاذلى بحميثرا حيث دفنه تلميذه.

الإمام الأكبر عبدالحليم محمود

 

 

من ظواهر الكرامات ما يردده الصوفيون عن الإمام عبدالحليم محمود شيخ الجامع الأزهر والملقب بسيد العارفين فى العصر الحديث رؤياه للنبى - صلى الله عليه وسلم - فى المنام يبشره بالنصر المؤزر للمصريين ليبلغ الإمام بدوره الرئيس الراحل أنور السادات البشرى ويوصيه بملازمة الجنود لهتافات النصر «الله أكبر» وهو ما كان بالفعل فى أكتوبر 1973.