د. خالد غريب
مصر القديمة مهد حقوق الإنسان
تحمل المفاهيم الشعبية الكثير من المغالطات عن الحضارة المصرية القديمة، ومن بين هذه المغالطات أن الملك هو الفرعون رمز الظلم وفى أمثالنا العامية (يا فرعون إيه فرعنك – ما لقتش حد يلمنى) والحقيقة أن هذه المقولة غير صحيحة، فالملك المصرى كان يعمل على العدل، ومحبة الناس له كانت الأساس الذى يعمل عليه ليبقى فى الحكم. لقب الفرعون الذى ظهر فى الدولة الحديثة كان يعنى ساكن القصر العظيم، وقبل هذا كان يقال عنه الملك، وعليه فإن القرآن الكريم حين تحدث عن يوسف قال عن حاكم مصر وهو ليس الهكسوسى كما يدعى البعض أنه الملك، وحين تحدث عن موسى قال عن الحاكم فرعون، ذلك لأن يوسف وبشكل شبه مؤكد عاش قبل الدولة الحديثة، بينما موسى عاش فى الدولة الحديثة.
هذه المقدمة كانت من الضرورة بمكان لنعى من خلالها أن الإنسان فى مصر القديمة كان هو أساس المجتمع، يحمل كل الحقوق وعليه واجبات احترمها الحاكم قبل المحكوم فخرجت حضارة ولا أروع.
لم يفرق المصرى فى الحقوق بين الرجل والمرأة فنعلم أن أم الشريف متن عاشت فى نهاية الأسرة الثالثة (2600 قبل الميلاد تقريبًا) وقالت إنها تركت ميراثًا لابن من أبنائها دون الآخرين لأنه كان يعتنى بها، كما كان للمرأة أن تكتب مولودها باسمها، وكانت من بين النساء من حصلن على مكانة كبيرة فى المجتمع وصلوا بها إلى أعلى الدرجات، ولا ننسى أن حق الإنسان ارتبط بمحبة الملك فمنكاورع مثلًا أوقف موكبه ليوافق أن يبنى قبرًا لشخص بجوار هرمه، ذكرت النصوص أن الرجل كان يرغب في أن يدفن بجوار الملك، وهو ما نفسره من ناحية أخرى أن الملك لم يكن ليمنع الحق الأصيل لأى إنسان فى المجتمع أن يكون له قبر يدخل من خلاله إلى العالم الآخر ويعيش الحياة الأبدية بسلام.
مع نهاية الدولة القديمة خرج المصريون ثائرين على الأوضاع يعلم كل منهم حقوقه وواجباته تجاه مجتمعه، ومن بين هؤلاء كان خون إنبو الفلاح المصرى الذى اشتكى من ضياع حقوقه كمواطن مصرى مع شخص فاسد فرد له الملك حقه، معتبرًا هذا جزءًا أصيلًا من عمله بصفته (سمن هبو أى مثبت القوانين)
مع نهاية عصر الانتقال الأول كتب أحد ملوك الأسرة العاشرة لابنه وهو ينصحه أن يعطى الحقوق للشباب ليشبوا محبين لبلادهم (بلدك عامر بشباب غض فى سن العشرين، وأن الجيل الناشئ ليسعد بمن يستوحى ضميره، فإن فعلت ذلك أتاك كل رب أسرة بأبنائه راضيًا) هكذا قال الملك لابنه أن يسعى لكسب ود شعبه وشبابه من خلال إعطائهم حقوقهم الإنسانية.
مع الدولة الوسطى ارتفعت رقعة الزراعة المصرية وازدهر الوضع الاقتصادى، وأصبح الأفراد من الملاك وأصحاب المكانة، فحمل الملوك لقب وحم مسوت أى معيد الميلاد وهذا يعنى أن الأفراد شعروا أنهم يحصلون على حقوقهم ويشعرون بالعدل فعادوا لإنجاب أطفال على عكس بعض الأوقات التى شعر فيها الناس باليأس من عدم حصولهم على حقوقهم فكانوا يقولون إن التماسيح هجرت نهر النيل من كثرة من ألقوا أنفسهم منتحرين.
فى عصر الدولة الحديثة انتقلت مصر نقلة نوعية كبيرة فى عصر الإمبراطورية المصرية، وكانت مهابة الحاكم المصرى تزلزل أراضى العالم المعروف حينها، وعلى الرغم من ذلك لم يهمل الملوك حق المصرى فى المكانة الكبرى فكان الملوك يسعون لإرضاء الشعب ولاغرو أن نذكر ما جاء على لسان الملك تحتمس الثالث أعظم ملوك مصر قاطبة حين أصدر ما يمكن اعتباره أول خطاب تكليف لرئيس وزراء ( إذا قصدك شاك من الصعيد أو الدلتا أو من أى بقعة فى الأرض، فعليك أن تتأكد أن كل شيء يجرى وفقًا للقانون والعرف، وامنح كل ذى حق حقه، تصرف وفقًا للعدل، فالمحاباة يمقتها الرب، وإليك نصيحة.. عامل من تعرفه كمن لا تعرفه، وانظر إلى المقرب إليك نظرك إلى البعيد عنك، لا تشح بوجهك عن صاحب شكوى، لا تغضب على فرد بغير حق، والنبيل هو من يجله الناس وتتأتى مهابته إن أحق الحق، ولكن إذا أخاف الناس وروعهم نزلوا به عن مصاف الرجال)
هذه النصائح تعطى درسًا رائعًا لمن يتشدقون بالعبودية فى مصر القديمة، وأن الملك كان يستعبد شعبه فالعكس هو الصحيح.
كان الملك فى عصر الإمبراطورية يحمل ألقابًا تجعل كل أعماله وحتى اختياره على كرسى العرش يتم وفقًا للعدل فهو سيد عدالة رع، وهو القوة الصادقة للمعبود، وهو مثبت عدالة رع رب الشمس.
وكان أحب المناظر تمثيلًا للملوك أن يصور الملك جالسًا يقدم الماعت للمعبود، والماعت هى الحق والعدل والقانون والنظام والتى من غيرها يسقط أى حق لأى شخص أيًا ما كان.
الملك سيتى الأول يقدم الماعت رمز النظام والقانون أمام الأرباب
مع حكم إخناتون وثورته الدينية ضد آمون، كان الملك يقول إنه يعيش بالعدل والحق، وأنه لا يخالف القوانين، وحين جاء حور محب باصلاحاته الشهيرة رفض استغلال أى شخص لنفوذه ووظيفته ووضع قوانين تنفذ من حينها وليس بأثر رجعى ضمانًا لحق الجميع، وكان يقول إن صاحب الماشية له الحق فى الإعفاء من الضريبة متى أثبت سرقتها.
أعطت الماعت للمصرى حق الدفاع عن نفسه والتظلم من قرار المحكمة، فعفت دور إقضاء الطبيعة، وكبير خمسة دار جحوتى التى توازى الآن محاكم الاستئناف، وكان حكم المحكمة ينفذ حتى على ابن الملك ومثال ذلك الأمير الذى تآمر على أبيه الملك رمسيس الثالث وقتله فحكمت المحكمة وفقًا لبردية تورين القضائية بإعدامه مع معاونيه.
وكان هناك عقاب رادع فى مصر القديمة لمن يخالف القوانين أو يمتنع عن تنفيذها وهى التشهير او ما نسميه الآن التجريس.
لم تكن حقوق الإنسان للمصرى فى حياته بل أيضًا بعد موته ففى محكمة العالم الآخر يقف المتوفى أمام الأرباب فى الفصلين 125 و130 من كتاب الموتى معترفًا ومنكرًا فيقول لم أفعل الشر، لم أسرق، لم أكذب، ويقر بفعله للخير وعدم إيذائه لأى شخص حتى لو كان عدوه، وحرصه على الزرع والنبات والنيل بدون تلوث.
أما عن الأجانب فكانوا يحصلون على حقوقهم وفقًا للقوانين، وعمل الملوك على تربية أبناء الحكام الخاضعين لمصر، وحين يعود إلى بلاده يكون محملًا بتقاليد وقواعد أساسية تضمن حقوق الإنسان فى بلادهم، ويذكر أن هذا ما تعلمه من مصر، كما عاش فى أرضها اليهود وتمتعوا بحقوق الإنسان التى لا يمكنهم إنكارها فيوسف جاء ببنى اسرائيل وتمتعوا بخير مصر وحقوقهم كما أشارت الكتب السماوية، وموسى الذى حمل جنسية مصر والاسم المصرى الذى يعنى الوليد (وليس ابن الماء كما يروج البعض لأن اللغة المصرية القديمة لا تقلب فى الترجمة فلو ترجمنا مو بعنى ماء وسا بمعنى ابن كما يعتقد البعض فيكون الاسم ماء الابن وليس ابن الماء) وليس موشى كما يحاول البعض الترويج والابتعاد عن الماعت بأن اللغة المصرية تشتق بعض مترادفاتها من العبرية.
وحين استشعر المصرى أنه لا يحصل على حقوقه البشرية الصحيحة لجأ إلى الكوميديا السوداء من خلال الكاريكاتير السياسى ثم أضرب عن العمل والجميل أن الملوك كانوا ينصفونهم ويمنحونهم حقوقهم كاملة.
هكذا كانت مصر وستظل إلى ما شاء الله نموذجًا يحتذى فى حقوق الإنسان وتطبيق الماعت، ولنكون جميعًا (عنخ إم ماعت = نعيش بالحق والعدل).