الأربعاء 4 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ليالى ألف ليلة وليلة تفرض سطوتها على فن الباليه

عندما روت البلارينات حكايات شهرزاد

ارتبطت حكايات “ ألف ليلة وليلة ” فى خيال المشاهد بمعالجات درامية تليفزيونية خلال شهر رمضان بقيت عالقة بالذاكرة معبرة أشد تعبيرا عن أجواء ورحيق أيام الشهر الكريم؛ قدمت تلك الأعمال فى أكثر من قالب فنى جمع بين الحكى وخيال الأساطير والاستعراض؛ تنافس معظمها فى إتقان الصنعة الفنية لمحاكاة الأساطير؛ أسرفت تلك الأعمال الدرامية فى صنع الحكايات المتخيلة بتصميم الملابس والديكور والخدع البصرية لإتقان فن الخيال ودخول عالم حكايات شهرزاد التى تفننت فى مداعبة الجماهير وخيال زوجها.



لكن كيف إذا خرج هذا الخيال من سياق الدراما المحكية المنطوقة صوتا وصورة كى يحاكى فنا آخر بخيال آخر لم يعتده المشاهد من قبل؛ ويدخل عالم شهرزاد الخيالى وحكاياته الأسطورية بفن الباليه؛ الفن الذى يتمتع بطبيعة وخصوصية تميزه عن غيره من فنون الرقص؛ تختلف طبيعة الباليه فى التشكيل الحركى والتشريح الجسدى لأجساد راقصيه؛ وكذلك فى تكنيك الحركة المتبع الذى يعتمد غالبا على حركات معروفة مكررة لم تخرج عن قالب محدد للغاية سواء فى أشكال ونمط رفع اليدين وإمالة الرأس للخلف أو الأمام أو رفعها لأعلى ورفع الأرجل وأشكال البلارينات فى اتخاذ أوضاع أقرب إلى الطيران والتحليق بالسماء لما نسب للباليه عادة من أنه نوع رقص أقرب لأشكال التعبد والتجرد من ملامح الإغراء الجسدى حتى كادت تفقد فيه البلارينا ملامحها الأنثوية كى لا تكون لافتة للنظر.

وبالتالى كان لافتا أن يختار فريق باليه أوبرا القاهرة نص “ألف ليلة وليلة ” الثرى بعدد من اللوحات الراقصة والدراما المرتبطة بحكايات شرقية ليقدمها أحد أكثر الرقصات الغربية خصوصية وأقلها مرونة فى تقبل الخروج عن السياق الحركى المعتاد لهذا الفن على وجه التحديد؛ قدم فريق باليه أوبرا القاهرة حكايات “ألف ليلة وليلة” فى انصياع وخضوع تام لما ترويه الدراما؛ حيث فرضت شهرزاد خيالها وسطوتها على فن الباليه فلم ينتصر الفريق للتكنيك الحركى المحدود للباليه بينما انفتح المخرج وفريق العمل على دراما ألف ليلة وليلة.

بدأ العرض فصله الأول بأحداث القصر حيث يعيش السلطان شهريار مع زوجته “نوريدا ” التى يحبها حبا شديدا؛ تستعد مجموعة من الحاشية للذهاب مع السلطان فى رحلة صيد يودع زوجته ويتركها وحدها بالقصر بينما تقيم  “نوريدا” حفلا صاخبا فى غياب زوجها ترقص فيه مع خادمها المفضل ويعود زوجها فجأة ليجدها فى أحضان عشيقها فيقرر قتلها وقتل عشيقها ومنذ هذه اللحظة يقرر شهريار الانتقام من كل فتاة تدخل القصر يتزوجها ليلة ويقتلها فى اليوم التالى إلى أن تظهر شهرزاد.

افتتحت اللوحة الأولى بالعرض بوداع السلطان لزوجته فى رحلة الصيد ثم الحفل الصاخب الذى أقامته الزوجة الخائنة وتضمنت تلك اللوحة حفلا راقصا ماجنا جمع ألوان وأشكال الرقص المتنوعة على أنغام موسيقى “فيكرت أميروف ” التى مزجت مزجا بديعا بين الألحان الشرقية والغربية؛ والتى روت أحداث القصة فى تتابع موسيقى معبر عن صعود وهبوط هذه الأحداث الساخنة فى انسجام فنى ومتعة كبيرة بأنامل المايسترو نادر عباسى الذى يتفنن دائما فى إمتاع جمهوره بحسن قيادته للأوركسترا والجمع الغفير من الراقصين على خشبة المسرح بإبداع كبير ليخرج لنا لوحة فنية مزجت بين تنوع الأداء الحركى الراقص على أنغام الموسيقى؛ بدأت اللوحة الأولى بخليط استثنائى من الرقص الشرقى المطعم بحركات بلارينات الباليه؛ هجين بديع بين رقصتين متناقضتين لتخرج لنا لوحة ميزها الإبداع من هذا التناقض فى الجمع بين ثقافتين شديدتى التباين والاختلاف فى المفهوم والمعنى والتعبير الجسدي؛ الرقص الشرقى الذى ارتبط فى خيال المشاهد والذهن العربى والغربى بأنه أحد أهم فنون السحر والغواية فالراقصة الشرقية مشعلة الغرائز والتمثيل المجسم لكل رذيلة عبر العصور تلك النظرة الراسخة فى عقول الأذهان الشرقية والغربية والتى استعرضتها تفصيلا الكاتبة شذى يحيى فى دراستها عن الرقص الشرقى بكتاب “ الإمبريالية والهشك بشك ” وبالتالى كان اختيارا شديد الذكاء والمرونة فى التصميم الحركى والتعبير الدقيق عن الدراما لمشهد الخيانة والإغواء الذى اتبعته الزوجة مع عشيقها استخدمت فيه المخرجة أرمينيا كامل تنويعات بين الرقص الشرقى بالحركة والملابس والدفوف وبعض اللمحات من حركات الباليه بالرقصة الثنائية مع مزجها بحركات شرقية صاخبة فكانت النتيجة خروج لوحة تعبيرية بديعة مزجت فيها المصممة والمخرجة بين خصوصية الباليه والحركات المنطلقة الحرة للرقص الشرقى. 

بين تقديم حركات الباليه المنمقة والمرتبة فى تكنيك حركى محدد خاصة بالرقصات الثنائية ثم الانطلاق والخروج عن نواميس هذا الفن الذى يتبع خصوصيته عادة بالأعمال التى يتناولها من قصص وحكايات خيالية ربما تكتب غالبا تلك الحكايات بما يناسب ويتسق مع فن الباليه؛ بينما ليس معتادا أن يختار هذا الفن لنفسه ما لايناسبه ليرضخ هو فى طواعية واستسلام لما تمليه عليه الدراما وليس لما يمليه هو من تكنيك حركى على هذه الدراما؛ خرجت المشاهد فى لوحات فنية حرة مستغلة أجساد الراقصين للتعبير عن دراما العرض؛ قدمت المخرجة رقصا تعبيريا مزج بين التعبير الجسدى والتمثيل أحيانا واستغلال تشكيلات جماعية بالملابس والحركة لحكى دراما العرض المختلفة فى مشهد قتل شهريار لجمع من الفتيات الذين اتشحوا جميعا بالسواد مغطاة رءوسهن بخمور سوداء حدادا على ما آل إليه وضعهن ثم ظهورهن وخفوتهن وكأنهن أشباح تطارده بعد ظهور شهرزاد؛ يشرح العمل ويفسر نفسه بلا كلمات منطوقة؛ كل ما احتوته الدراما من مشاعر غضب وخيانة وغدر ثم انتقام وقتل ونهاية بالاستسلام والخضوع إلى امرأة واحدة استطاعت مغازلة وجدان شهريار بحكاياتها التى لا تنتهى ولا تكف عن مداعبة خياله وتشويقه ليلة بعد أخرى حتى بلغت لياليها الألف!

انسجمت الصورة المسرحية انسجاما تاما مع مداعبة تلك الخيالات الليلية الطويلة لحكايات شهرزاد سواء الملابس أو الإضاءة تصميم المهندس ياسر شعلان والديكور تصميم المهندس محمد غرباوى شكلت عناصر الصورة لوحات فنية بديعة لا تقل اتقانا وسحرا عن الإبداع الفنى لكل الأعمال التى سبق وأن قدمت حكايات “ألف ليلة وليلة” من قبل؛ تميزت ملابس العرض المتنوعة بتصميماتها وألوانها الزاهية عن أشكال ملابس بلارينات الباليه المعتادة لتتسق مع حكايات ألف ليلة وليلة؛ وكذلك ملابس حكاية “علاء الدين والمصباح السحري ” المتداخلة مع أحداث العرض الأصلية والتى كانت ترويها شهرزاد لحبيبها على مدار العرض؛ فى مرونة شديدة بين الخروج لحكاية علاء الدين والعودة للحكاية الأصلية التحمت دراما باليه “ ألف ليلة وليلة ” لتقدم لنا عملا فنيا شديد التماسك والانسجام بالرقص والتمثيل والموسيقى والإضاءة والديكور فى ليلة مضت وكأنها حلم من أحلام ليالى شهرزاد عاشها الجمهور وتفاعل معها تفاعلا حيا على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا.