ضحايا بلا حماية
التنمر الإلكترونى.. خطر يهدد خصوصية المجتمع

تحقيق ـ سمر حسن وخالد كرم
الاستخفاف بمشاعر الآخرين، وتحطيم قلوبهم، واستهداف حالتهم النفسية، أصبح وسيلة لتحقيق الربح المالى والشهرة، على حساب أشخاص آخرين، وذلك من خلال ممارسة التنمر الإلكترونى من قبل بعض الأشخاص، وتوجيه حملات سخرية وإسفاف ضد البعض.
بعد أن أصبح التفاعل والمشاركات الكثيرة على المنشورات التى تُبث على صفحات التواصل الاجتماعى تُدر مقابلًا ماديًا ضخمًا، زادت ممارسات التنمر عبر هذه الشبكات بشكل كبير، بحيث تتضمن توجيه حملات سخرية ضد شخص أو جهة معينة، أو السخرية من الصفات الوراثية لدى البعض، سواء بنشرها فى محتوى عام، أو بإرسال رسائل مهينة أو تهديدية، أو نشر معلومات شخصية أو صور بدون إذن، أو إنشاء صفحات مزيفة بهدف الإساءة.
ورغم تعرض البعض لأزمات نفسية حادة دفعت بعضهم إلى الانتحار، إلا أن استخدام هذا النوع من التنمر لا يزال مستمرًا.
عواقب نفسية
لم تقتصر ظاهرة التنمر عبر صفحات «السوشيال ميديا» على المزاح والضحك فقط، بل تحولت إلى حملات ممنهجة، ومدفوعة من قبل جهات تسعى لحصد عدد أكبر من التفاعل، مقابل عوائد مالية ضخمة.
من جانبه، قال الدكتور جمال فرويز، استشارى الطب النفسى، إن التنمر الإلكترونى هو استخدام وسائل التواصل الاجتماعى لقهر بعض الأشخاص، من خلال تسليط الضوء على صفة ما فى أحدهم بصورة ساخرة، مما يتسبب له فى ألم نفسى شديد.
وأوضح أن هذه الظاهرة منتشرة بشكل كبير بين فئة المراهقين، مؤكدًا أن التنمر الإلكترونى يشكل خطرًا نفسيًا أكبر، بسبب سرعة انتشاره فى وقت أقل، ومساحة أوسع، وبين عدد كبير من الأشخاص.
وتابع: هذا ما يُشعر الضحايا بالاكتئاب الشديد والحزن، ويتفاقم هذا الشعور حتى يصل إلى القلق والخوف المستمرين، وانخفاض الثقة بالنفس نتيجة تدمير صورة الضحية الذاتية.
وأشار «فرويز» إلى أن ذلك قد يؤدى إلى عزلة الشخص، ودخوله فى نوبات اكتئاب شديدة.
وشدد على ضرورة توعية مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى بهذه الممارسات، خصوصًا فئة الأطفال والمراهقين، مع ضرورة رقابة ومتابعة ما يشاهده أفراد هذه الفئة، لتجنب وقوعهم ضحايا لهؤلاء الأشخاص أصحاب الصفحات المبتزة.
وأوضحت الدكتورة فيروز أبو عمر، إخصائية التنمية البشرية، أن للتنمر أشكالًا متعددة، تطورت مع التطور التكنولوجي. فبعد أن كان يُمارس وجهًا لوجه بين أفراد الجماعة الواحدة، اتسع نطاقه مع تزايد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأكدت أن هذا السلوك غير أخلاقى، وحدث بسبب التغيرات المجتمعية السريعة، التى لم ننتبه لها فى بداية التعامل مع التكنولوجيا الحديثة.
كما أشارت إلى وقوع حالات انتحار فى دول أخرى، نتيجة تعرض الضحايا للتنمر الإلكترونى.
وشددت على ضرورة التوسع فى مجال التنمية البشرية، وتوسيع مدارك النشء الجديد بما يتماشى مع التكنولوجيا، بحيث نصل إلى مرحلة نستفيد فيها من إيجابياتها، ونتجنب السقوط فى بئر مساوئها.
تمويل التنمر الإلكترونى
قال الدكتور أحمد الخولى، باحث فى أمن المعلومات، إن التنمر عبر صفحات التواصل الاجتماعى ليس كما يبدو للبعض مجرد مزحة، بل هو سلوك موجه، تقف خلفه جهات معينة، تقوم بإعداد محتوى مسيء لنشر ثقافة محددة، بهدف تحقيق أهداف دنيئة، وذلك من خلال استغلال عدد من الشباب «أدمن صفحات»، لبث هذا المحتوى مقابل مبالغ مالية ضخمة.
وتابع: إن عددًا من التطبيقات الشبكية، أشهرها «تيك توك» و«فيس بوك»، تمولها شركات إنتاج، وتدفع بالعملة الصعبة لأصحاب الصفحات التى تمتلك عددًا كبيرًا من المتابعين، مقابل التوسع وسرعة الانتشار لهذا المحتوى.
وقد يكون الهدف من ذلك هو التشهير والتنكيل بشخصية بارزة من قِبل منافس له، يقوم بدفع تلك الصفحات للانتقام منه.
وأوضح الباحث فى أمن المعلومات، أن العائد المادى المغرى جعل البعض يقبل التنمر عليه والتشهير به، مقابل تحقيق الربح والشهرة، أو ما يُعرف بـ «ركوب التريند».
وأردف: رغبة الكثيرين فى الحصول على الأموال دون جهد أو تعب دفعتهم للقيام بذلك، فى ظل غياب التوجيه المجتمعي.
واستكمل: إن التربح بهذه الطريقة ومن هذه المصادر يُعتبر نوعًا من غسيل الأموال.
وشدد على ضرورة خضوع جميع الممارسات الإلكترونية لإشراف مباحث الإنترنت، بما يمكّنها من تحجيم ومنع أى محتوى غير لائق، وضرورة وضع شروط صارمة لعرض أى محتوى، مع خضوع مُحرّكى الصفحات الإلكترونية لرقابة مباحث الأموال العامة، لمعرفة مصادر هذه الثروات، وأسباب تضخمها، حتى لا يلهث الكثيرون خلف نشر محتوى مسىء بهدف جمع الأموال.
كما أكد على أهمية إنتاج محتوى توعوى على شاشات التليفزيون ومنصات التواصل الاجتماعى، يُرشد إلى كيفية الاستفادة المعلوماتية والربحية من وسائل التواصل الاجتماعى، بطريقة لائقة وصحية.
البحوث الجنائية
من جانبه، قال الدكتور فتحى قناوى، أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، إن استغلال السوشيال ميديا للتنمر على الأشخاص يتجاوز مجرد كونه «تنمرًا»، بل يصل إلى حد الابتزاز النفسى، والمادى، والمعنوى.
وأوضح أن وضع صورة شخص، أو إلصاق صفة مسيئة به على صفحات التواصل الاجتماعى، له أضرار جسيمة، لا تقتصر على الأفراد، بل تطال المجتمع ككل، حيث تضعف البناء المجتمعى القائم على الأسرة والأفراد.
وتابع: من الضرورى وضع أصول وقواعد للتعامل على السوشيال ميديا، وأن تخضع لجهات رقابية مسئولة عن فلترة ما يتم بثه، وليس لأشخاص تحكمهم الميول والأهواء، أو الدوافع المادية.
وأشار إلى استخدام بعضهم لحسابات وهمية، مما يزيد من خطورة الوقوع فريسة لحروب الجيل الرابع والخامس.
وأضاف أن الوقت الراهن، ومع ضغوط الحياة المتزايدة، جعل البعض لا يسعى للتحقق من صدق المحتوى المعروض على صفحات التواصل الاجتماعى، مما سهّل عملية تصديق ما يُنشر، وتداوله وإرساله، وبالتالى أصبح كثيرون ضحايا للابتزاز الإلكتروني.
وشدد على ضرورة وجود جهة رسمية تراقب جميع المحتويات المنتشرة على الإنترنت، وتتمكن من إزالة المحتوى الذى يمثل تهديدًا أو ابتزازًا لأى شخص.
الحق القانونى للضحايا
قال الدكتور محمد محمود مهران، أستاذ القانون الدولى: إن التنمر الإلكترونى يُعتبر جريمة يعاقب عليها القانون، وفقًا للتشريعات المصرية والاتفاقيات الدولية.
وأوضح أن العالم بدأ يتعامل مع هذه الظاهرة كجريمة جنائية متكاملة الأركان، تستوجب المساءلة القانونية.
ولفت إلى أن إحصاءات حديثة كشفت أن نحو 70% من مستخدمى الإنترنت فى مصر تعرضوا لشكل من أشكال التنمر الإلكترونى خلال العامين الماضيين، وأن 30% من ضحايا التنمر هم من الفئة العمرية بين 13 و18 عامًا، مما يستدعى تكثيف الجهود لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة.
وأضاف أن مصر خطت خطوات متقدمة فى مجال مكافحة الجرائم الإلكترونية من خلال قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، والذى تضمن مواد صريحة تُجرّم التنمر الإلكترونى، وتفرض عقوبات تصل إلى الحبس والغرامات المالية الكبيرة.
واستطرد قائلًا: لم يعد التنمر الإلكترونى مجرد إساءة عابرة، بل أصبح ظاهرة إجرامية تتضمن سلوكًا عدائيًا متعمدًا يهدف إلى إلحاق الأذى بالضحية نفسيًا واجتماعيًا، ويتسم بعنصر التكرار، والاستمرارية، واختلال توازن القوة بين المتنمر والضحية.
واستكمل: إن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، ينص فى المادة 25 على أن يُعاقب على جرائم التنمر الإلكترونى بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تزيد على 100 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من تعمد مضايقة الغير أو التعرض له باستخدام وسائل تقنية المعلومات. وقد تزيد العقوبة فى حالات أخرى.
وتابع: إن التنمر الإلكترونى يتخذ عدة أشكال قانونية، منها: «القذف والسب الإلكترونى ويتمثل فى توجيه عبارات مسيئة أو نشر معلومات كاذبة تضر بسمعة الضحية عبر منصات التواصل الاجتماعى».
كذلك انتهاك الخصوصية: مثل نشر صور أو مقاطع فيديو شخصية للضحية دون موافقتها، أو اختراق حساباتها الشخصية.
أما التهديد والابتزاز الإلكترونى فيتم من خلال تهديد الضحية بنشر معلومات أو صور خاصة بهدف الابتزاز المادى أو المعنوى.
كذلك سرقة الهوية الرقمية، كإنشاء حسابات مزيفة باسم الضحية لتشويه سمعتها.
كما يشمل التحريض على الكراهية مثل نشر خطاب يحض على كراهية الضحية بناءً على عرقها أو دينها أو جنسها.
وشدد على أن التكييف القانونى لهذه الأفعال يختلف باختلاف طبيعتها، فقد تُصنّف كـ: «جرائم ضد السمعة والاعتبار، وجرائم ضد الخصوصية، وجرائم ضد أمن وسلامة المجتمع».
وأشار إلى أن العقوبات تتصاعد فى الحالات التى تشمل أكثر من جريمة، خاصة إذا كان الابتزاز يتضمن تهديدًا بنشر محتوى يمس شرف الضحية، كما تُضاعف العقوبة فى حال استهداف قاصر أو شخص من ذوى الاحتياجات الخاصة، لتصل إلى سبع سنوات حبس، وغرامة قد تصل إلى 500 ألف جنيه.
وأوضح أن هناك إشكالية تتعلق بالاختصاص القضائى بسبب الطبيعة العابرة للحدود للجرائم الإلكترونية، مشيرًا إلى أن الفضاء الإلكترونى لا يعترف بالحدود الجغرافية؛ فقد يكون مرتكب الجريمة فى دولة، والضحية فى دولة أخرى، وقد تكون الخوادم التى تستضيف المحتوى المسىء فى دولة ثالثة، مما يثير إشكالات قانونية معقدة حول تحديد الاختصاص القضائى وتطبيق القانون المناسب.
وأضاف أن اتفاقية بودابست لمكافحة الجرائم الإلكترونية لعام 2001 تُعد الإطار القانونى الدولى الأبرز فى هذا المجال، إذ توفر آليات للتعاون الدولى وتُلزم الدول الأطراف بتجريم بعض الأفعال المرتبطة بالتنمر الإلكترونى.
وتابع: انضمت مصر إلى اتفاقية بودابست فى عام 2020، مما عزز قدرتها على التعاون الدولى فى ملاحقة مرتكبى الجرائم الإلكترونية خارج حدودها.
وطرح مجموعة من الآليات القانونية لمواجهة التنمر الإلكترونى، أهمها:
توثيق الأدلة الرقمية، مثل لقطات الشاشة، الرسائل، والمنشورات المسيئة، مع الحرص على تسجيل تاريخ ووقت وقوعها.
كذلك تقديم بلاغ رسمى إلى النيابة العامة أو وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية بوزارة الداخلية.
ومن بين الآليات القانونية كذلك استصدار أوامر قضائية لحجب أو إزالة المحتوى المسيء من المنصات الإلكترونية.
كما تشمل الاستعانة بخبراء الأدلة الرقمية لتتبع مصدر التنمر وتحديد هوية المتنمر.
سلوك حيوانات مفترسة
وقال الدكتور حامد محمد جاب الله، مدرس الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن التنمر هو سلوك يتضمن الإساءة للآخرين، كالضرب والسخرية والسب، وقد سُمّى بهذا الاسم لأن فاعله يتجرد من إنسانيته، ويُشبه فى سلوكه الحيوانات المفترسة.
وأضاف أن السلوك يُعتبر تنمرًا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط: «التعمد، والتكرار، اختلال ميزان القوة بين المعتدى والضحية».
وأوضح أنه إذا توفرت هذه الشروط وحدث ضرر للضحية، فإن ذلك يُعد تنمرًا حقيقيًا يتطلب التعامل معه بجدية، ولا يجوز اعتباره مجرد مزاح.
وأشار إلى أن التنمر يُخلّف آثارًا سلبية خطيرة لا تقتصر على الضحية فحسب، بل تمتد إلى المتنمّر والمجتمع والدولة، وتشمل هذه الآثار الجوانب: البدنية، النفسية، والسلوكية، والتعليمية، والاجتماعية، والدينية، والبيئية.
وتابع: التنمر قد يؤدى إلى الفشل والإخفاق، ويُضعف العزيمة، ويكسر الثقة بالنفس.
وقد يدفع الضحية إلى التخلى عن الأخلاق الحسنة والرد بالمثل، مما يُسبب تراجعًا فى القيم والأخلاق.
واستكمل قائلاً: إن الإسلام نهى عن معاملة الناس بالازدراء أو التشهير، بل دعا إلى دعم المخطئ وعدم معايرته، مستشهدًا بقول النبى صلى الله عليه وسلم فى شارب الخمر: «لا تُعينوا عليه الشيطان».
وواصل قائلًا: عالج الإسلام ظاهرة التنمر بتحريمه، مؤكدًا حرمة إيذاء الناس. وأوضح أن علاج هذه الظاهرة يتطلب تعاون جميع الأطراف: المتنمّر، والمتنمَّر عليه، والمجتمع.
وتابع: إن العلاج يبدأ من المتنمّر نفسه، ويشمل تقوية الجانب الدينى لديه، إذ يجب أن يُدرك أن جميع الناس من أصل واحد، ولا فضل لأحد على الآخر إلا بالتقوى.
وأوضح حرمة إيذاء الآخرين، مستشهدًا بقول النبى صلى الله عليه وسلم:
«المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه»، وقوله أيضًا: «من كان فى حاجة أخيه، كان الله فى حاجته».
وأضاف أن التنمر يُعد ظلمًا بيّنًا، كما ورد فى الحديث القدسى:
«يا عبادى، إنى حرّمت الظلم على نفسى، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا».
وقال: إن علاج التنمر من جهة المتنمَّر عليه يتضمن تعزيز الثقة بالنفس، وعدم الاستسلام للإهانة، وطلب الدعم النفسى والاجتماعى من الأسرة أو المعلمين، إضافة إلى الرد بالحكمة وعدم مقابلة الإساءة بالإساءة، مع اللجوء إلى الله بالدعاء والتضرع وطلب النصر واليقين.
وأكد أن دور المجتمع فى علاج ظاهرة التنمر يتمثل فى:
نشر الوعى بخطورة التنمر، من خلال المدارس، والمساجد، ووسائل الإعلام، ووضع قوانين صارمة تُعاقب على التنمر، وتحمى الضحايا، وتعزيز ثقافة الاحترام والتسامح بين الناس، ودور الأسرة المحورى فى تربية الأبناء على القيم الإسلامية، والأخلاق الحميدة، والتعامل الحسن مع الآخرين.