أيمن عبد المجيد
التكامل العربى ضرورة حتمية
تسونامى سياسى عالمى وإقليمى شهده العقد الأخير ما زالت آثاره ممتدة، من أمواج الخريف العربى 2011 التى تلاطمت، محدثة شروخًا عميقة فى بنيان الدولة الوطنية ببلدان عربية، إلى الحرب الروسية الأوروبية على الأرض الأوكرانية، مرورًا بعامين من حرب الإبادة الجماعية التى ارتكبتها إسرائيل بحق أبناء الشعب الفلسطينى بقطاع غزة، وصولًا لجرائم بحق الإنسانية ترتكب من ميليشيات الدعم السريع بحق أبناء الشعب السودانى فى الفاشر، وأطماع صهيونية فى أراضٍ سورية ولبنانية.
ومع تلك التهديدات والتحديات، ذات الآثار الأمنية والاقتصادية المباشرة وغير المباشرة على جميع بلدان الوطن العربى، وما يصحبها من محاولات إعادة رسم خارطة النفوذ الدولى، يبقى تكامل الدول العربية الناجية من مخططات التدمير الداخلى ضرورة حتمية لتعزيز القدرة العربية الشاملة فى مواجهة التحديات.
تلك القدرة اتضح تأثيرها فى الموقف المصرى العربى الإسلامى الموحد الرافض لتهجير الشعب الفلسطينى، والتمسك بوقف حرب الإبادة الجماعية، ودعم الشعب الفلسطينى إنسانيًا وسياسيًا للبقاء على أرضه، وقد أثمرت تلك الجهود عن تنامى الاعتراف الدولى بحق الشعب الفلسطينى فى دولة مستقلة، ومؤتمر شرم الشيخ للسلام الذى شهد توقيع وثيقة وقف إطلاق النار.
ولعل الأثر الإيجابى لوحدة الموقف والتكامل، يفسر المحاولات المتكررة للإجهاز على ما تبقى من علاقات عربية قوية، تسهم فى استعادة القدرة العربية الشاملة، الحامية للأمن القومى العربى والحقوق المشروعة، واستعادة الدولة الوطنية فى البلدان التى شهدت مؤسساتها تصدعات بالغة.

ومن ثم فإن هدف المحاولات المتكررة لشق الصف هو إضعاف مناعة الدول العربية المكتسبة بوحدة مواقفها وتكاملها، أملًا فى بلوغ حالة ضعف تسهم فى تنامى فرص نجاح مخططات تستهدف الدولة الوطنية العربية والإقليم.
فالأمن القومى العربى ما هو إلا محصلة الأمن الفردى لكل دولة عربية، تعزيزه يبدأ من تعزيز تماسك الدولة الوطنية وبقائها، وتنامى قدراتها على مواجهة تحدياتها الداخلية والإقليمية والعالمية.
فالجسد العربى مثل الجسد البشرى، لا يمكن أن يشتكى عضو من ألم أو مرض وينعم باقى الأعضاء بالهناء والشفاء، فلا مناص من أن يتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، هذه حقيقة لا يمكن تغافلها.
من أهم العلاقات العربية التى تستهدف قوى الشر تعكيرها رسميًا وشعبيًا، العلاقات المصرية السعودية، لما تمثله مصر والسعودية، فهما جناحا الأمن القومى العربى، وما يربطهما من علاقات متجذرة، وثقل وقدرات التأثير الإيجابى عالميًا لصالح القضايا القومية العربية.
فمصر ضاربة بجذورها فى عمق التاريخ، لأكثر من سبعة آلاف عام، قوة حضارية.. مكان ومكانة جيوسياسية.. تبلغ مساحتها 1,002 مليون كيلو متر مربع، وهى دولة إفريقية، وتضع قدمها «شبه جزيرة سيناء» فى قارة آسيا، ومنها يمر شريان تجارة العالم عبر قناة السويس، تطل على البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، ثروتها البشرية ناهزت 115 ملايين نسمة، لا تتوقف على مدار تاريخها عن إنجاب العلماء والمفكرين والمبدعين فى مختلف المجالات..من بناء الأهرامات وحضارة مصر القديمة إلى المتحف المصرى الكبير والعاصمة الإدارية، وما يُنجز من مشروعات قومية.
مصر ذات ثقل دولى وقارى إقليمى وسياسى، وهى من الدول المؤسسة بالأمم المتحدة، تملك قدرة سياسية، وجيشا قويًا عقيدته راسخة، وقادر على ردع الأعداء، وحماية مقدرات الدولة الوطنية ومحددات الأمن القومى الوطنى والعربى.
المملكة العربية السعودية أقوى دول الجزيرة العربية، ذات مكانة دينية، بما كرمها به الله من خدمة الحرمين الشريفين، المكى والمدنى، اللذين تهفو إليهما قلوب مليار مسلم، وما تملكه من قوة اقتصادية، وثروة نفطية، بأعلى احتياطيات جعلتها المُصدر الأول للنفط عالميًا، مما يعزز قدرة نفوذها العالمى، فضلًا عن كونها الأكبر خليجيًا فى المساحة وعدد السكان، وما تشهده من خطط تنموية وقدرة استثمارية تعزز قوتها الدبلوماسية.
كل ذلك جعل مصر والسعودية جناحى الأمن القومى العربى، يسهم تعاونهما وتكاملهما مع الدول العربية الفاعلة المستقرة، مثل الأردن والإمارات وقطر، وغيرها فى حماية الأمن القومى العربى، وأثمر ذلك موقفًا عربيًا إسلاميًا شديد القوة فى مواجهة مخطط التهجير وحماية القضية الفلسطينية، وتسريع وتيرة الاعتراف الدولى بدولة فلسطين، ثم نجاح جهود الوساطة المصرية القطرية التركية الأمريكية بتوقيع وثيقة وقف إطلاق النار بمؤتمر السلام بشرم الشيخ، تمهيدًا لإعادة الإعمار.
وهنا يجب الانتباه لعدد من النقاط بالغة الأهمية:
-1 العلاقات الدولية المعاصرة فى ظل تشابك التحديات والأزمات والتهديدات تجعل من التكامل العربى ضرورة حتمية لتعزيز قدرة البقاء.
-2 كل دولة عربية لديها مواطن قوة تسهم فى تعزيز القدرة العربية الشاملة، ولديها ما يحتاج إلى تعزيزه بالتكامل مع الأشقاء العرب.
-3 لكل دولة عربية حساباتها ورؤيتها لمصالحها وآليات تحقيقها، لكن هناك ثوابت ومشتركات، ينبغى الحفاظ والبناء عليها وتعظيم التفاهمات وتقليص مساحات التباين.
-4 قوى الشر تسعى دائمًا، للعبث بالتباينات فى الرؤى السياسية، للنيل شعبيًا من صلابة العلاقات التاريخية الراسخة، فالأخوة الشعبية قائمة وثابتة، والتباينات السياسية حول القضايا متغيرة، وعلى النخب السياسية والفكرية أن تدعم تعزيز المشتركات، لا تعكير صفو العلاقات.
-5 النماذج التاريخية كثيرة على الثمار الإيجابية لوحدة الموقف والتكامل العربى، فمصر التى نجحت فى يونيو 1956 فى تحرير أرضها من الاحتلال البريطانى، الذى طال حتى 74 عامًا، دعمت بكل ما أوتيت من قوة حركات وثورات التحرر عربيًا وإفريقيًا.
دعمت مصر ببعثاتها التعليمية وكوادرها البشرية وقدراتها العلمية والمالية، الشعوب العربية وبناء مؤسسات الدولة فى الخليج والبلدان العربية التى تحررت من قوى الاحتلال الغربى.
خاضت مصر الحروب وبذلت دماء الشهداء دفاعًا عن استقلال إرادتها والقضايا العربية، وفى مقدمتها القضية الفلسطينية بدءًا من 1948، 1956، وحتى نكسة 1967 كانت نتيجة تحركات إسناد لسوريا التى طلبت الدعم، فى مواجهة تهديدات صهيونية.
■ حرب 1973 نموذج للإرادة والتكامل العربى، كل دولة عربية أسهمت بما تستطيع، فالدول المنتجة للبترول خفضت صادراتها، واستخدمت سلاح البترول للضغط على القوى الغربية الداعمة للعدو، ودول عربية أخرى ساهمت بأسلحة وقوات رمزية تعبيرًا عن الدعم، أو تسهيل استيراد معدات دون كشف الهدف، مثل ليبيا التى استوردنا بواسطتها مضخات المياه التى استخدمت فى فتح ممرات فى خط بارليف، وهذا التكامل يمكن تكراره فى العديد من التحديات الراهنة.
■ حقًا؛ دعمت السعودية والإمارات والكويت، مصر عقب ثورة 30 يونيو فى لحظة تاريخيّة فارقة، سعت خلالها قوى خارجية لكسر إرادة الشعب المصرى، بأزمات اقتصادية، ومحاولة الحصار السياسى، وهو ما أشاد به الرئيس عبدالفتاح السيسى فى أكثر من مناسبة.
■ والحقيقة أيضًا أن هذا الدعم عقب ثورة 30 يونيو يعد نوعًا من التكامل، حقق المصلحة الوطنية المصرية والعربية، فمصر بإرادة وطنية شعبية، تصدت لأخطر مخطط لتفكيك الدول العربية الوطنية من الداخل ونجت بإرادة شعبها ودعم أشقائها مما أسهم فى إطفاء النيران التى كانت تستهدف قوى الشر - إذا ما تمكنت من مصر لا قدر الله - نقلها إلى دول عربية خليجية، فدعم استقرار مصر، دعّم استقرار العرب الداعمين، وحافظ على أهم ركائز القدرة العربية الشاملة، وحدّ من تهديدات كانت تستهدف دولهم.
-6 يجب على الشعوب فى الدول التى حفظها الله استثمار وعيها وطاقتها فى الدعوة للبناء وتقوية العلاقات لا هدمها، ودعم جهود إحلال السلام والحفاظ على وحدة وسلامة أراضى الدولة الوطنية التى تشهد صراعات.
-7 التكامل العربى دائمًا يثمر نتائج إيجابية، يضاف إليه تكامل الدائرة الإسلامية، فالتعاون المصرى القطرى السعودى دعّم صمود الشعب الفلسطينى على أرضه، وفرض الإرادة العربية التى دفعت القوى الفاعلة العالمية للعمل على وقف إطلاق النار، واليوم تعمل الرباعية الدولية «مصر والسعودية والإمارات وأمريكا» على تنفيذ خارطة حل الأزمة فى السودان انطلاقًا من ثلاثة محاور هى: هدنة مؤقتة لوقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات الإنسانية الإغاثية وبدء مسار حل سياسى سودانى - سودانى.
الخلاصة: ما شهده العالم العربى منذ عام 2011، من استهداف للدول العربية الوطنية، وتدمير بعضها من الداخل، خصم من القدرة العربية الشاملة، وما حفظها الله من دول وفى مقدمتها مصر ودول الخليج وغيرها تواجه تحديات كبيرة، تستوجب تكاملًا وليس خلافًا، لتعزيز القدرة الشاملة على البقاء والمواجهة وتستوجب دورًا فاعلًا لاستعادة قوة الدولة الوطنية ومؤسساتها فى البلدان التى أصيب بتصدعات.
وهنا يجب أن تعى الشعوب خطورة التحديات، وأهمية تفويت الفرص على من يريد إشعال الفتن متعمدًا أو جاهلًا، ودعم كل ما من شأنه تعزيز التكامل العربى، والتاريخ يؤكد دائمًا أن التكامل ضرورة حتمية للنجاة، ومصلحة الدولة منفردة تتحقق فقط بقوة الأمن القومى العربى واستقرار الإقليم، وبناء مواقف موحدة فى القضايا المصيرية.










