مملكة البردى فى قلب الشرقية

الشرقية - عبدالعاطى أبو السعود
فى أقصى شمال محافظة الشرقية، وتحديدًا بمركز أبو كبير، تقع قرية «القراموص»، والتى قد لا يعرفها الكثيرون، إلا أنها تحمل إرثًا من أعظم ما خلفته الحضارة المصرية القديمة «ورق البردى»، فهناك لا تقتصر الحياة على الزراعة أو المعيشة الهادئة، بل تدور عجلة صناعة فرعونية خالصة، يتقنها الكبار ويورثونها للأبناء، فى واحدة من أندر الصناعات اليدوية فى مصر والعالم.
الورق الذى كتب به التاريخ
فى تلك القرية، يستيقظ الفلاحون منذ الصباح الباكر، لا ليحرثوا الأرض فقط، بل ليعتنوا بنبتة البردى، التى كانت أساس الكتابة فى مصر القديمة، ووسيلة الفراعنة لتسجيل حضارتهم، إذ يُزرع البردى فى مياه راكدة، ويُحصد بعناية، ثم يُقطع ويُضغط ويُجفف ليخرج فى النهاية على هيئة ورق سميك له ملمس خاص، لا يزال يدهش الزوار والسياح وأساتذة التاريخ حتى الآن.
ويقول الحاج حسن عبدالعال، أحد أقدم صناع البردى فى القرية: «تعلمت المهنة من جدى، وكان يأتى إلينا علماء من أوروبا يشاهدون كيف نصنع الورق يدويًا.. إحنا بنحافظ على تراث بلدنا بإيدينا».
صناعة تحارب من أجل البقاء
ورغم تميز «القراموص» فى إنتاج البردى الذى يُستخدم فى الديكور، والهدايا التذكارية، واللوحات الأثرية، إلا أن أهلها يواجهون تحديات كبيرة، على رأسها ارتفاع تكلفة الإنتاج، وتراجع حركة التصدير والسياحة، إضافة إلى غياب الدعم الكافى لترويج منتجاتهم.
وتوضح منى السيد، شابة فى الثلاثينيات، بدأت مشروعًا صغيرًا لتسويق البردى إلكترونيًا: «كل قطعة ورق فى القراموص وراءها قصة.. نفسى الدولة تساعدنا بمعارض خارجية وموقع موحد للتسويق.. إحنا بنصدر حضارة، مش بس منتج».
متحف مفتوح.. ودروس فى الصبر
زيارة القرية كأنها رحلة عبر الزمن، حيث ترى الأطفال يجلسون بجوار الأمهات يتعلمون كيف تُصنع اللوحات الفرعونية، وكيف تُطبع رموز الآلهة، ويُشكل ورق البردى بعناية فنية، أقرب إلى التأمل،
فهى ليست مجرد صناعة، بل مدرسة فى الصبر والإتقان.
وبينما يتناقص عدد القرى التى لا تزال تحتفظ بحرفها التقليدية، تواصل «القراموص» مقاومتها، وتصر على أن تبقى «عاصمة البردى» بلا منازع.