الخميس 14 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الفخار فى الزنكلون.. حكاية تراب يتحول إلى لقمة عيش

فى قلب قرية الزنكلون التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، وعلى قطعة أرض صغيرة لا تتعدى مساحتها قيراطًا واحدًا، تفوح فى الأجواء رائحة مميزة تعرفها الأنوف من بعيد. 



إنها «رائحة الفواخير»، التى تقودك مباشرة إلى أحد أقدم مواقع الصناعة التراثية فى مصر، حيث ما زالت أيادى الرجال والنساء تشكل الطين، وتحوّله إلى قطع فخارية أصبحت منذ عقود مصدرًا رئيسيًا للرزق والبقاء.

على يسار مدخل تلك الأرض التى تنبعث منها رائحة التاريخ، تمتد عشرات الفواخير الصغيرة، متراصة كأنها جنود فى صف منتظم، متماثلة فى الشكل والحجم، بعضها فوق بعض، فى مشهدٍ بسيط الملامح، لكنه مهيبٌ فى هيبته، يحكى قصة عرق وكفاح. 

أما على الجهة اليمنى، فينتصب فرن تقليدى شامخ، مبنى من الطوب اللبن والحجارة، يتكوّن من طابقين ويصل طوله إلى نحو أربعة أمتار، يُستخدم فى تجفيف الفواخير وتحويلها من طين رخو إلى فخار صلب بلون أحمر قانٍ، بعد أن تكتسب صلابتها النهائية تحت نار الحطب والقش.

تعتمد صناعة الفواخير على مكونين أساسيين لا يختلفان منذ نشأتها: التراب والماء. 

يُنقّى التراب من الشوائب بعناية باستخدام «الغرابيل»، ثم يُمزج بالماء ليُصبح عجينًا طينيًا، تبدأ بعده الرحلة الحقيقية للصناعة داخل أكواخ صغيرة، جدرانها من الخوص والطين، حيث يجلس عم سعيد، أقدم صانع فواخير فى القرية.

بأصابعه التى حفرت الزمن، يستخدم عم سعيد آلة تقليدية تُعرف باسم «الدولاب»، وهى قاعدة دائرية متصلة بأسطوانة تُحرّك بالقدم، فيدور ببطء تحت قدميه بينما يداه تنحتان الطين وتحوّلانه إلى فخارة لينة تُشكَّل بدقة نادرة. بعد التشكيل، تُترك الفخارة فى الهواء لعدة أيام حتى تجف تمامًا، ثم تُرصّ داخل الفرن ليُشعل بالحطب ويحوّلها إلى فخار صلب متماسك.

يقول عم سعيد، خلال حديثه لـ «روزاليوسف»: «اتولدنا على المهنة دى، وورثناها أبًا عن جد، ومش بنعرف غيرها. حتى لو البيع قل، بنستحمل عشان لقمة العيش، لأن لو سبناها مش هنعرف نعيش ولا نشتغل فى حاجة تانية».

لكنّ رحلة الفخار اليومية لا يسيرها عم سعيد وحده، زوجته شريكة أصيلة فى هذا المسار، تنهض فى الصباح الباكر، تنهى أعمال المنزل، ثم تلتحق به إلى موقع العمل، حيث تساعده فى حمل الفواخير ورصها جنبًا إلى جنب. هى لا ترى فى الفخار مجرد عمل، بل جزءًا من حياتها، كما تقول، مؤكدة أنهما لم ينفصلا يومًا عن بعضهما فى العمل منذ زواجهما.

ورغم كل هذا التفانى، لا تمر الأيام دون تحديات كبيرة تواجه هذه الحرفة التراثية. يقاطع الحديث عم طلبه، أحد صانعى الفواخير بالقرية، قائلًا:

«سعر حمولة التراب بيزيد يوم عن يوم، والنقل بقى نار، والعمالة كمان. أوقات بنقعد شهور من غير ما نبيع حاجة، مع إن الفخار موجود وكتير، بس التجار بقوا يتراجعوا عن الشراء بسبب غلاء الأسعار. بس بنستحمل ونشتغل لحد ما نعمل كمية ونستنى اللى ييجى يحمل».

ومع كل هذه الصعوبات، لم تنطفئ شعلة الأمل فى عيون أبناء الزنكلون، فالفواخير ما زالت تجد طريقها إلى محافظات مصر المختلفة، خاصة تلك التى تهتم بتربية الحمام والأرانب، كما لا يزال البعض ينجح فى تصديرها إلى الخارج، فى تأكيد على أن هذا التراث ما زال ينبض بالحياة رغم التحديات.