الأربعاء 27 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«الأستاذان فتحى غانم وصلاح حافظ».. هكذا علّمنى الكبار!
كتب

«الأستاذان فتحى غانم وصلاح حافظ».. هكذا علّمنى الكبار!

كانت الصحافة لمن يدق أبواب « روزاليوسف» أكثر من مجرد مهنة، كانت شغفًا ووهجًا لا ينطفئ، لكن وهج الحماسة وحده لا يصنع صحفيًا، وإنما التعلم على يد «أسطوات المهنة» وملوك الإبداع الصحفى، وكان لى حظ أن أكون تلميذًا لاثنين من عمالقة الصحافة وصناع المجد للمؤسسة العريقة.



حين كنا نلهث خلف «السبق الصحفى» كمن يطارد السراب فى الصحراء، كان الأستاذ فتحى غانم يقف كظل شجرة وارفة يسلّحنا بالحكمة، ويقى رؤوسنا من لهيب التهور. كان يُردّد عبارته الرائعة: «السبق الصحفى الكاذب.. انتحار مهنى».

لم تكن مجرد نصيحة، بل قانونًا مقدسًا فى محراب الصحافة، وأذكر تمامًا ذلك اليوم من عام ١٩٨٨، حين نادانى الأستاذ، وقال بنبرة لا تقبل الجدل: اذهب إلى أسيوط، نريد أن نعرف ما يحدث هناك من أعمال عنف وعمليات إرهابية، وأضاف بصرامة: لا تكتب رأيك ودَعْ الوقائع تتحدث، وقل رأيك فى النهاية فقط، منفصلًا عن التحقيق الصحفى.

كانت أسيوط ١٩٨٨، تشتعل بسبب طالب جامعى اسمه «شعبان» سقط برصاص أحد المخبرين، فأغضب الحادث المدينة الجامعية كلها ومنع طلاب الجماعة الإسلامية الدراسة وأغلقوا الجامعة حتى تدخّل الرئيس مبارك، وأمر بنقل شعبان إلى مستشفى المعادى العسكرى، بعد أن تحولت الجامعة إلى ثكنة احتجاج، وطرد الطلاب الحرس الجامعى وارتفعت الرايات السوداء فى الأرجاء.

لم أكن أحمل غير قلم وجهاز تسجيل صغير، وكان أول من التقيته الدكتور محمد حبيب، نائب مرشد الجماعة فى ذلك الوقت ورئيس نادى أعضاء هيئات التدريس ودار بيننا حوار طويل طلبت منه أن يُمهّد لى الطريق للقاء قيادات الجماعة الإسلامية ولم يتردد.

قادتنى خطاى إلى شارع «شركة قلتة» بعد العشاء، حيث المسجد الذى يتجمع فيه أعضاء الجماعة، وكان الظلام سيد المكان، إلا من ضوء هنا وهناك وسيارات الشرطة ترابط والمدينة تتنفس خوفًا.

دخلت المسجد وبعد الصلاة تأكد الطلاب من هويتى، واتفقنا على أن نسجل الحديث من الجانبين، سألت فأجابوا، وسجلت كل شىء بأمانة، لم اُضف حرفًا، وخرج التحقيق على صفحات «روزاليوسف» فى ثلاث حلقات تحت عنوان: «أسيوط فى ذمة الجماعات الإسلامية».

وكتب الكاتب الكبير إبراهيم الوردانى فى عموده بجريدة «الجمهورية»: إذا أردتم أن تعرفوا ما يحدث فى أسيوط، اقرأوا ما كتبه الصحفى الشاب كرم جبر.

علمت بعد ذلك أن الرئيس مبارك غضب من العنوان «أسيوط فى ذمة…..» وحين زار أسيوط بعدها بشهور ألغيت جولته الشعبية، واقتُصرت الزيارة على سرادق بجوار المطار وعاد إلى القاهرة وقال حينها: «روزاليوسف كانت على حق».

لم تكن مجرد جولة صحفية، بل رصد بكل أمانة لما يحدث فى أسيوط التى عاشت إرهابًا يرفع شعار «قتل رجل شرطة كل يوم»، وتحملت الشرطة العبء ودفعت الثمن، حتى انتصر الوطن.

لكن الدرس الأكبر لم يكن فى تفاصيل الحدث، بل فى ظلال الأستاذ فتحى غانم فى احترام المهنة، والصدق مع القارئ، والوقوف على حافة الحقيقة دون أن نسقط فى بئر التحامل أو الهوى.

إننا لا نرث المهنة فقط، بل نرث الأخلاق التى صاغتها، والدم الذى كتب بها روادها سطورهم، وعلّمنى أن أكتب- كما قال- كما يكتب الضوء على جدران الحقيقة.

وكنت محظوظًا أيضًا عندما تعلمت من واحد من أعظم أساطين الصحافة المرحوم «صلاح حافظ»، رئيس تحرير «روزاليوسف» فى السبعينيات وصاحب أكبر توزيـع وخبطات صحفية فـى تاريخ الصحافة العربية، ولكنه اختلف مع الرئيس السادات بعد أحداث ١8و١٩يناير سنة ١٩٧٧.

السادات كان يرى أنها انتفاضة حرامية، وصلاح حافظ يراها انتفاضة شعبية ضد الظلم، و«الحرامية» قفزوا عليها فحسب، فتم إبعاده من رئاسة التحرير بعد غلاف شهير لأحداث شارع الهرم.

وظل صلاح حافظ قامة صحفية وفكرية كبيرة، ويكفى أنه أول من أدخل إلى مصر كل ما هو جديد فى عالم المجلات، وأسس صحيفة العالم اليوم، فكيف كان يفكر الكاتب السياسى الاشتراكى اليسارى فى إصدار صحيفة اقتصادية رأسمالية لرجال الأعمال؟

كنت نائبًا لرئيس التحرير ومساعدًا لصلاح حافظ فى الصحيفة الجديدة التى أسسها الأستاذ عماد الدين أديب، أول تحد واجه الأستاذ هو: من يشترى الصحيفة وثمنها ٢ جنيه فى ذلك الوقت بينما ثمن الصحف اليومية ٥٠ قرشًا وكان رده: الجريدة لن يشتريها إلا من يزيد دخله عن 3 آلاف جنيه شهريًا، وعلينا أن نصنع صحيفة لهم، واهتمامات أصحاب هذه الدخول الكبيرة فى ذلك الوقت هى: 

■ أخبار البورصات العالمية والبترول والمعادن الثمينة والمحاصيل الزراعية وأسعارها وتوابعها من الأحوال الاقتصادية فى العالم.

■ العالم الخاص بالمجوهرات الثمينة التى تهم النساء مثل الألماس والسولوتير.

■ الموضوعات الطبية، والعمليات، وجراحات التجميل والسمنة.

■ الموضوعات الصحية، والمنتجات التى تتلاءم مع الاحتياجات الفردية.

■ أجهزة التبريد والتكييف وترتيب الحدائق المنزلية وغيرها، التى تلائم احتياجات السكن فى الفيللات وليس الشقق.

وهكذا.. حدد للصحيفة شخصية خاصة، تتناسب مع دخول جمهورها فى ذلك الوقت ومشوقة لكل طبقة وجمهور يبحث عنها وتلبى احتياجاته حتى لا تكون نسخة مكررة من الصحف الأخرى، مثل صحف اليسار التى تدافع عن الرأسمالية، وصحف اليمين التى تهاجم المستثمرين، وكان يفكر بعبقرية وواقعية وذكاء.

عندما أدار “روزاليوسف” كان سياسيًا بارعًا، وعندما خطط للعالم اليوم كان اقتصاديًا محنكًا، واكتشف أساليب مبتكرة فى الموضوعات والقراءة والتوزيع، ولم يحصر الطريق فى القوالب الجامدة، كان يخلق الفكرة، الجو النفسى المناسب للصحفيين والكتاب والمحررين والموزعين.