خبراء: «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» خريطة جديدة ترسم المستقبل

هيثم يونس
فى خطوة وُصفت بأنها إعلان بداية مرحلة جديدة للاقتصاد المصرى، أطلقت الدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى، «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية: السياسات الداعمة للنمو والتشغيل»، كوثيقة استراتيجية تضع مصر على مسار متجدد للتنمية.
تأتى هذه السردية فى توقيت فارق؛ فبعد سنوات من الإصلاحات الاقتصادية، التى ارتبطت ببرامج صندوق النقد الدولى وما صاحبها من تحديات اجتماعية وضغوط معيشية، تسعى الدولة الآن إلى تقديم رؤية متكاملة للتنمية تستند إلى قدراتها الذاتية، وتستهدف بالأساس المواطن المصرى باعتباره المستفيد الأول من أى سياسة اقتصادية.

بنود الوثيقة
تضم الوثيقة خمسة فصول رئيسية تمثل محاور متشابكة ومترابطة، وهى: (استقرار الاقتصاد الكلى، تعزيز الاستثمار الأجنبى المباشر، التنمية الصناعية والتجارة الخارجية، كفاءة ومرونة سوق العمل، التخطيط الإقليمى لتوطين التنمية الاقتصادية).
فالسردية الوطنية للتنمية الاقتصادية ليست مجرد وثيقة حكومية جديدة، بل هى إعلان إرادة سياسية واقتصادية بأن مصر تدخل مرحلة جديدة عنوانها: الاستقرار، والإنتاج، والعدالة.
وإذا ما نجحت الدولة فى تحويل هذه المحاور إلى برامج واقعية على الأرض، فإن السنوات المقبلة قد تشهد قفزة نوعية فى مسار الاقتصاد المصرى، وتحول المواطن من متلقٍ للضغوط إلى شريك حقيقى فى جنى ثمار التنمية.

معدلات النمو
أكدت د. رانيا المشاط وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى أن السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية تستهدف معدل نمو اقتصادى بنسبة 7% بحلول 2030، وزيادة نسبة الاستثمارات الخاصة إلى الاستثمارات الكلية إلى 66% فى 2030 مقابل 60% فى خطة العام المالى الجارى، وزيادة نسبة الاستثمارات الخاصة إلى الناتج المحلى الإجمالى إلى 11.9% مقابل 9.1% فى خطة العام المالى الجارى، ورفع نسبة مساهمة القطاع الخاص فى الناتج المحلى الإجمالى إلى 82% بحلول عام 2030، وزيادة الاستثمارات الكلية لتسجل 18% من الناتج المحلى الإجمالى، وزيادة نسبة المشروعات الخضراء لنحو 75% من إجمالى الاستثمارات العامة، وزيادة عدد الوظائف التى يولدها الاقتصاد سنويًا من 900 ألف وظيفة متوقعة فى خطة العام المالى الجارى إلى 1.5 مليون وظيفة فى عام 2030، وإعادة هيكلة 59 هيئة اقتصادية لرفع كفاءة الأداء وتقليل التداخل فى الاختصاصات وترشيد الإنفاق العام.

صمام الأمان
بحسب خبراء الاقتصاد، فلا تنمية دون استقرار، وهذه هى القاعدة التى تنطلق منها الحكومة، يشير هذا المحور إلى استمرار السياسات التى تستهدف ضبط معدلات التضخم، والحفاظ على استدامة الدين العام، وتعزيز مرونة السياسة النقدية والمالية.
الهدف هنا ليس فقط تحقيق أرقام على الورق، بل ضمان أن يعيش المواطن فى اقتصاد مستقر يتسم بانخفاض تقلبات الأسعار، وقدرة الدولة على تمويل احتياجاتها دون أزمات متكررة.
الاستقرار الكلى يعنى كذلك بناء الثقة لدى المستثمرين المحليين والأجانب، وتهيئة البيئة التى تسمح بتحقيق نمو اقتصادى مستدام يتجاوز 5% سنويًا.
الاستثمار الأجنبى المباشر
أكد الخبراء أن من بين المحاور الأكثر حيوية فى السردية يبرز ملف الاستثمار الأجنبى المباشر. تدرك الحكومة أن تدفق رؤوس الأموال الأجنبية لا يعنى مجرد توفير تمويل إضافى، بل يعنى نقل التكنولوجيا، وفتح أسواق جديدة، وتوليد وظائف ذات قيمة مضافة.
تستهدف الوثيقة إزالة العقبات البيروقراطية، وتبسيط الإجراءات، وتوفير حوافز استثمارية فى قطاعات واعدة مثل الطاقة الجديدة والمتجددة، والاقتصاد الأخضر، والصناعات التكنولوجية.
يمكن أن تحول هذه السياسات مصر إلى مركز إقليمى للاستثمار، خاصة مع موقعها الاستراتيجى وربطها بين أسواق إفريقيا وآسيا وأوروبا.
التنمية الصناعية والتجارة الخارجية
يركز المحور الثالث على تعزيز القاعدة الصناعية وزيادة الصادرات، وهو ما يمثل قاطرة حقيقية للنمو.
ويوضح الخبراء أن المستهدف هنا هو رفع مساهمة الصناعة فى الناتج المحلى، وتوسيع قاعدة الصادرات غير البترولية لتقليل الفجوة التجارية. وتسعى الدولة عبر هذه الاستراتيجية إلى تشجيع توطين الصناعات، ودعم سلاسل القيمة المحلية، بحيث تصبح مصر ليست فقط سوقًا للاستهلاك، بل دولة مصدّرة ومنافسة فى الأسواق العالمية.
ويعكس النجاح فى هذا المسار مباشرة على المواطن من خلال زيادة فرص العمل وتحسين الأجور، فضلًا عن تقليل الاعتماد على الواردات وما يرتبط بها من تقلبات سعر الصرف.
كفاءة ومرونة سوق العمل
تضع السردية الوطنية الإنسان فى قلب المعادلة، إذ يشير المحور الرابع إلى أهمية تطوير سوق عمل مرن قادر على استيعاب الداخلين الجدد سنويًا، خاصة مع ارتفاع معدلات الشباب بين السكان.
ويتطلب ذلك برامج تدريب وتأهيل تواكب متطلبات سوق العمل، وتشجيع ريادة الأعمال، ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
كما تسعى الدولة إلى تعزيز مشاركة المرأة فى سوق العمل بما يرفع من الإنتاجية الإجمالية للاقتصاد.
فى النهاية، الهدف هو بناء سوق عمل عصرى ومرن يقلل من البطالة ويزيد من دخول الأسر.

التخطيط الإقليمى لتوطين التنمية
لا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية دون الحديث عن توزيع عادل لعوائدها. يتناول المحور الخامس فى السردية الوطنية التخطيط الإقليمى، أى توجيه الاستثمارات والمشروعات إلى مختلف المحافظات، وعدم تركّز التنمية فى العاصمة أو المدن الكبرى فقط.
يعنى هذا التوجه أن الريف والصعيد وسيناء سيكون لهم نصيب واضح من خريطة التنمية، عبر مشروعات البنية التحتية، والمجمعات الصناعية، والخدمات التعليمية والصحية، بحسب خبراء الاقتصاد. وبذلك تتحقق العدالة المكانية، وينخفض النزوح الداخلى من القرى إلى المدن بحثًا عن فرص العمل.
ماذا سيتغير؟
السؤال الذى يفرض نفسه: كيف سينعكس إطلاق هذه السردية على حياة المواطن العادى؟ تتلخص الإجابة فى ثلاث نقاط رئيسية:
تحسن المستوى المعيشى: من خلال السيطرة على التضخم، وتوفير وظائف، وزيادة الدخول، وفرص أكبر للشباب: عبر دعم سوق العمل وريادة الأعمال، وعدالة فى توزيع التنمية: بحيث تصل الخدمات إلى كل قرية ومدينة.
مصر ما بعد صندوق النقد
أهم ما تحمله السردية الوطنية هو رسالة استقلالية.
فبعد سنوات من الاعتماد على برامج دعم دولية، تسعى مصر الآن إلى تقديم رؤية محلية خالصة تراعى خصوصية الاقتصاد المصرى، وتبنى على مكامن قوته، من الزراعة والصناعة إلى الطاقة المتجددة واللوجستيات.
إنها وثيقة تؤكد أن مصر تعلمت من التجربة السابقة، وأن المرحلة المقبلة هى مرحلة الاعتماد على الذات مع الاستفادة من الشراكات الدولية، لكن دون الاعتماد عليها.
يمثل إطلاق هذه السردية نقطة تحول استراتيجية، إذ تقدم للحكومة والمجتمع خريطة طريق واضحة. ويعنى التركيز على القطاعات الإنتاجية أن النمو سيكون أكثر استدامة وأقل هشاشة أمام الأزمات. كما أن البعد الاجتماعى حاضر بقوة، مما يعكس إدراك الدولة أن التنمية لا تُقاس فقط بالناتج المحلى، بل بمدى انعكاسها على حياة المواطنين.

رؤية واضحة
أشاد د. أشرف غراب، الخبير الاقتصادى، بحديث الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الوزراء بأن الحكومة لديها رؤية اقتصادية حتى عام 2030، تمتد لما بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولى، وترتكز على ما تم تحقيقه من إصلاحات اقتصادية تسمى السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية، وطرح هذه الرؤية الاقتصادية المتكاملة للحوار المجتمعى، مؤكدًا أن برنامج مصر مع صندوق النقد الدولى سينتهى نهاية عام 2026، ومع تحسن المؤشرات الاقتصادية ونجاح الإصلاحات الاقتصادية خلال السنوات الماضية فلن تكون مصر بحاجة إلى تمويل جديد من صندوق النقد الدولى.
وأوضح غراب أن أسباب لجوء مصر إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولى ترجع إلى عدد من العوامل، فبرنامج الإصلاح الاقتصادى بدأ منذ عام 2016 وحقق نجاحًا ملحوظًا.
إعلان إرادة سياسية
من جانبها أكدت د.عالية المهدى أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة أن السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية ليست مجرد وثيقة حكومية جديدة، بل هى إعلان إرادة سياسية واقتصادية بأن مصر تدخل مرحلة جديدة عنوانها الاستقرار، والإنتاج، والعدالة، واهتمام من الدولة بقضايا اقتصادية أساسية.
وأوضح د.محمد البهواشى، الخبير الاقتصادى، أن الحكومة أطلقت وثيقة «السردية الوطنية للتنمية» كإطار شامل يروى قصة الجهود الاقتصادية المبذولة خلال السنوات الماضية، والتى انعكست على مؤشرات الاقتصاد الكلى ودفعت بمصر إلى تحقيق نتائج إيجابية رغم التحديات العالمية.
لا تكتفى الوثيقة برصد الأرقام والإنجازات، بل تقدم تفسيرًا واضحًا لأسباب القرارات الاقتصادية التى اتخذتها الدولة، وكيف تداخلت أدوار مختلف الجهات الحكومية فى صياغة وتنفيذ هذه السياسات. كما تكشف عن فرص الاستثمار الواعدة التى تنتظر مصر فى مرحلة ما بعد انتهاء برنامج صندوق النقد الدولى، مؤكدة أن الاقتصاد الوطنى يقف اليوم على أرضية أكثر صلابة.

وحرصت الحكومة على صياغة الوثيقة بلغة مبسطة تتيح للمواطنين فهم أبعاد الموقف الاقتصادى بعيدًا عن التعقيدات الفنية، تمهيدًا لطرحها فى حوار مجتمعى موسع، يشارك فيه الخبراء والمواطنون على حد سواء، من أجل مناقشة التحديات والفرص ورسم ملامح الطريق نحو تنمية شاملة ومستدامة.