
د.عزة بدر
الرواية والسرد المضاد
العلاقة وثيقة بين الرواية كفن سردى حديث وبين السياسة.. فلقد اشتبك فن الرواية بمواجهة الاستعمار بالسرد المضاد، والرد بالكتابة على مزاعمه وأطماعه، بحيث يمكن القول: إن الرواية منبع أصيل لثقافة المقاومة والمفكر «إدوارد سعيد» « 1932 ـــــــــ2003» من أهم النقاد والمفكرين الذين أسهموا فى مجال النقد، والكشف عن أساليب بعض المستشرقين فى سلب الشعوب قدرتها على تمثيل ذواتها، والتعبير عن هويتها.
ومن أهم كتبه: «الاستشراق»، و«الثقافة والمقاومة»، و«المثقف والسلطة»، و«صور المثقف»، و«تأملات حول المنفى» وغيرها.
ومن الكتب التى صدرت حديثا، وتناولت فكره وأبرز أعماله كتاب «ثقافة المقاومة فى فكر إدوارد سعيد»، للدكتورة ناهد راحيل، وهو الكتاب الذى حصل على جائزة إدوارد سعيد فى نقد الفكر الاستشراقى عام 2021، أما الكتاب فقد نشر عام 2023، وصدر عن «العربى» للنشر والتوزيع.
والكتاب يقدم قراءة عميقة فى فكر إدوارد سعيد، وأكثر ما لفت نظرى اهتمامه بالتأصيل لفن الرواية، وتحليله للروايات التى قامت بفعل المقاومة، والسرد المضاد لمفاهيم الاستشراق التى لم تكن أبدًا محايدة بل قامت بوظيفة وسياسة تخدم السياسات الاستعمارية من وجهة نظر مؤداها أن معرفة الشرق هى جزء من السيطرة عليه، ولأن الخطاب الاستشراقى أسهم فى خلق عالم شرقى مختلف يتوافق مع غايات المستعمر، فالشرق الذى تحدث عنه بعض المستشرقين هو شرق صامت، لا يملك القدرة على أن يعبر عن نفسه، لذا يحلل إدوارد سعيد هذا الخطاب الاسشتراقى، ويبرز بعض الأعمال الروائية الغربية التى تبنت هذا الخطاب، كما يتناول الروايات التى قامت بالسرد المضاد.
فيقول: «إن رواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد قد جسدت الموقف الإمبريالى من إفريقية بشكل واضح، والصورة التى بلورتها الرواية الإفريقية، ليست فقط أبعد ما يكون عن كونها مجرد أدب بل هى إلى درجة خارقة مشتبكة بهذا التزاحم بالمناكب على إفريقية، الذى كان معاصرًا لتأليف كونراد لهذه الرواية».
وإفريقيا التى صورها كونراد ما هى إلا إفريقية مسيسة جاءت لتخدم أهداف الرجل الأبيض الذى حاول خلقها كما يرى.
ويشير إدوارد سعيد إلى روايات قامت بفعل المقاومة مثل رواية «النهر المابين» لنغوغى واثينغو الذى أعاد كتابة رواية «قلب الظلام» لكونراد، جاعلًا الأبيض ينسحب إلى مواقع هامشية ليستعيد الأصلانى المركز فى السرد، وعودة إفريقية.. إفريقية.
أما الطيب صالح فى روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» كما حللها مفكرنا فهى تقلب الرحلة من رحلة فى قلب الظلام عند كونراد إلى هجرة مقدسة فى الريف السودانى إلى قلب أوروبا، حيث يطلق الطيب صالح لبطله مصطفى سعيد عنان عنف طقوسى ضد نفسه، وضد النساء الأوروبيات، وتختتم الهجرة بعودة مصطفى سعيد إلى قريته الأصلية وانتحاره فيها.
وهذه الروايات المقاومة كان هدفها الأساسى كما يرى مفكرنا هو ممارسة الالتزام الثقافى الذى يقاومون من خلاله كل أشكال السيطرة، وكان هدفهم الأساسى إعادة كتابة تاريخهم، وتمثيل ذواتهم بعيدًا عن التنميطات الثقافية التى فرضها عليهم الاستشراق، وبعض المستشرقين، حيث يؤكد مفكرنا أن المقاومة الثقافية ما هى إلا رحلة إلى داخل الثقافة تتيح الفرصة لإنشاء نصوص تهدم هيمنة الخطاب الأوروبى السائد، وتفسح مجالًا لأعمال المثاقفة التى ترفض فكرة المركزية الغربية ووجهات النظر الشمولية.
وترى د. راحيل أن مفهوم الرواية عند إدوارد سعيد يتفق مع مفهوم جورج لوكاتش لها، فالرواية كما ذكرا هى سردية تاريخية بصورة محسوسة، تصوغها تواريخ حقيقية لأمم حقيقية لكنها فى المقابل ومن خلال المخيال الفنى تقوم بإعادة تشكيل الفضاء الاجتماعى، ومن ثم تمثيل الآخر، وإعادة تعريفه، ووجوده وقد اهتم مفكرنا بالنقد الثقافى، والقراءة الطباقية للرواية بحيث تتم قراءة الرواية الأوروبية فى علاقتها بالروايات المضادة لها، وهذا من شأنه أن يكشف عن المستور والمسكوت عنه فى السرود الأوروبية خاصة تلك السرود والكتابات التى واكبت الحركة الاستعمارية.
وقد اهتم مفكرنا بشكل خاص بأدب المنافى، والمهاجر الذى يهتم بدراسة ثنائية المكان والإزاحة، وما ينتج عنها من أسئلة الهوية والانتماء، حيث تحاول الذات استعادة علاقتها بالمكان، انطلاقًا من شعورها بأنها ضحية انزياح مكانى عنيف، واستئصال من جغرافيتها الأصلية.
ويرجع اهتمامه بأدب المنافى بتجربته كمفكر فلسطينى، لازمه شعور الاقتلاع فى كل كتاباته، وتصف د. راحيل هذا البعد فى كتاباته فتقول: «لا يمكن فصل تجربته الشخصية مع الاقتلاع والنفى عن توجهه المعرفى، ولا عن رؤيته النقدية ومنهجه فى تحليل الخطابات المعرفية والرمزية التى أنتجتها الثقافة الغربية، وسُبل مقاومتها وتفكيكها».
وقد قام مفكرنا بتحليل بعض النصوص الغربية فى تناولها للشرق، فرأى أن فلوبير ربط الشرق بالجنس، وقدم صورة نمطية للمرأة صامتة وعاجزة عن التحدث، ومن ثم لا تقوى على تمثيل ذاتها، بينما اهتم »نيرفال« بنمط المرأة الهارية، فقد كان الشرق عندهما صورة ثابتة صامتة تقوم على الالتقاء فى التجميع، والإزاحة والإلغاء.
ويشير مفكرنا إلى الاستشراق الذى يسعى للمعرفة التى تُستغل وتُدرس ويتم تحليلها للسيطرة والهيمنة على الآخر، ويذكر أن الأيديولوجية الصهيونية قد اعتمدت كذلك على السجل المعرفى الخاص بالاستشراق، فقد احتل اليهود مكانًا داخل حركة الاستشراق الغربى الأوروبى، وقد اعتمدوا الخطاب الاستشراقى ذاته الذى مهد لظهور الحركة الصهيونية بوصفها حركة استعمارية، لتبدأ مرحلة الاستشراق الصهيونى الذى أصبح له موضوعاته الخاصة التى تهدف بطبيعة الحال لخدمة الحركة الصهيونية، وتأصيل الوجود اليهودى فى فلسطين، وفى مقالة لمفكرنا بعنوان «الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها»، يرى أن الفكر الصهيونى فرض هيمنة على الخطاب الإنسانى، وأن الصهيونية ما هى إلا استمرار للمشروع الاستعمارى الغربى للشرق.
... الرواية، أو سرد الحكاية عند إدوارد سعيد هى الثقافة التى تحصن أصحابها، وتمنعهم من الذوبان فى منظومة الهيمنة التى تُملى عليهم من الخارج، والرواية ليست تلك النصوص المغلقة عن الشروط التاريخية والاجتماعية التى أنتجتها، وإنما هى تلك النصوص التى تعد فضاء لتداخل النصوص، ونتاج تفاعلها داخل شرط تاريخى، وسياسى معين، وهى أيضا بناء فنى محكم يعيد إنتاج تلك النصوص بأفكارها الفاعلة من الرد بالكتابة إلى السرد المضاد.