د.عزة بدر
فى ضوء الكلمة.. المتحف المصرى الكبير والاحتفال بالحياة
المتحف المصرى الكبير هو رحلة تواصل الإبداع عند الشخصية المصرية منذ الأجداد فى التاريخ المصرى القديم وحتى الآن.
التجديد والابتكار مع المحافظة على الأصالة والتراث من سمات الإبداع المصرى.
فكما تتعامد أشعة الشمس على وجه الملك رميسس الثانى فى 22 أكتوبر، و22 فبراير من كل عام فى معبد أبى سمبل، منذ ثلاثة وثلاثين قرنًا حرص بُناة المتحف المصرى الكبير على الحفاظ على الطقس الملكى الفريد وعلاقته بالشمس كمصدر للقوة واستمرار هذا النور فى العالم فالملك رمسيس الثانى ينعم بضوئه وفرادته حسب التوقيت الفلكى نفسه الذى وضعه الكهنة والعلماء قبل آلاف السنين، ويطل وجهه المضىء على العالم من المتحف المصرى الكبير رمزًا لإشراق الحضارة المصرية القديمة، وابتكاراتها العلمية والمعمارية والهندسية.
وتصف د.الشيماء محمد عيد فى كتابها «المتحف المصرى الكبير هدية مصر إلى العالم»، والصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عن سلسلة «حكاية مصر»، الكثير من الأسرار حول كيفية إعادة إنتاج هذه الظاهرة: تعامد الشمس على وجه رمسيس الثانى فتقول: «هذه الظاهرة رسالة قوية عن استمرارية الحضارة المصرية وقدرتها على توظيف علوم الماضى لتخدم حاضرها».
وذكرت وصف أحد الزوار الأجانب بعد مشاهدة وجه رمسيس الثانى مضيئًا، تتعامد عليه الشمس فى إشراقته الملكية فى المتحف المصرى الكبير بأن هذا المتحف هو احتفال بالحياة، حياة حضارة لا تعرف الكلل.
ومن الأسرار التى كشف عنها الكتاب أيضا أنه فى سنوات الكورونا وبينما أغلقت المتاحف أبوابها حول العالم، وصلت نسبة الإنجاز فى المتحف المصرى الكبير إلى 98٪، كما كانت تُنسج شبكة رقمية متطورة تُعد الجهاز العصبى للمتحف، وكان السؤال: كيف تُنقل القطع الأثرية فى زمن التباعد الاجتماعى؟، وكيف تُكمل فرق العمل مهمتها مع تقليص الأعداد؟ وكانت الإجابة فى إرادة استثنائية حولت الأزمة إلى فرصة «فقد استمر البناء فى صمت، وكان المتحف يُعرف أنه سيولد إلى عالم مختلف، عالم سيكون فى أمَسّ الحاجة إلى شاهد على قدرة البشر على الصمود والإبداع».
وقد صدر كُتيب حول ذلك بعنوان: «لم نتوقف يومًا فى مواجهة كورونا»، وتضمن الإجراءات التى اتخذها المتحف للحفاظ على سير العمل رغم أزمة كورونا.
ونحن نحتفل بالمتحف المصرى الكبير، كأحد تجليات إبداع الشخصية المعاصرة نحتفل أيضًا بتراث هذا المتحف الذى مر على افتتاحه فى 15 نوفمبر 1902 حوالى مائة وثلاثة وعشرون عامًا «123» فى موقعه السابق فى ميدان الإسماعيلية الذى عُرف لاحقًا بميدان التحرير فكان أول متحف يُقام ليحكى قصص ملوك مصر القديمة، بل نحتفل أيضا بمرور مائة وثلاثة أعوام «103» على اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون التى اكتشفها «هوارد كارتر» وهى المقبرة الفريدة الكاملة على عكس معظم المقابر الملكية فى التاريخ المصرى القديم، فلقد تم اكتشاف هذه المقبرة فى الرابع من نوفمبر 1922.
إن هذا التواصل مع تراثنا الأصيل وثقافتنا المصرية الضاربة بأعراقها وجذورها الى آلاف السنين هو أحد تجليات المتحف المصرى الكبير، فهو رمز للشخصية المصرية المبدعة.
فى صُحبة الملوك عبر ما يُسمى «الدرج العظيم» والذى يُمثل ممرًا زمنيًا ضخمًا يأخذنا فى رحلة وصحبة الملوك والعظماء الذين صنعوا التاريخ المصرى القديم، وعند قمة الدرج تظهر الأهرامات الثلاثة عبر الواجهة الزجاجية العملاقة، والدرج يتكون من أربعة تكوينات رئيسية هى: الهيئة الملكية، والدور المقدسة «أماكن العبادة فى مصر القديمة»، والملوك والمعبودات، والرحلة الى العالم الآخر أو الحياة الأبدية.
والدرج العظيم ليس مجرد وسيلة للانتقال بين الطوابق بل هو رحلة كاملة عبر الزمن حيث نلمس تطور الفن والعقيدة والسلطة فى واحدة من أعظم الحضارات التى عرفها الإنسان كما تقول د.الشيماء فى كتابها، والتى تؤكد أن «المتحف المصرى الكبير هو المنارة العالمية الرائدة فى إدارة التراث الثقافى، فهو مركز عالمى للتعلم والابتكار عبر تقديم تجربة ملهمة للزوار من خلال التعرف على أفضل معايير الحفظ والترميم، واستخدام التقنيات الحديثة فى العرض حيث شهد العقد الأخير تحولًا جذريًا فى دور المتاحف العالمية من مجرد حاضنات للتراث الى منصات فاعلة للتنمية المستدامة، وحسب المجلس الدولى للمتاحف فإن تعريف المتحف يشمل: تعزيز المسئولية البيئية والاجتماعية على كوكب محدود الموارد»، ويرجع تاريخ هذا التعريف الى أغسطس 2022.
وقد استلهم العلماء المصريون هذه الحداثة فى تطوير دور المتحف، فهناك اثنان وثمانون ألف قطعة أثرية «82 ألفًا» دخلت فى سجلات رقمية دقيقة، وتم التعامل مع قاعات المتحف كلوحات فنية بصرية حيث تتيح قاعة العرض الرئيسية التجول للزائرين، داخل لوحة فنية مفتوحة، وفى المدخل الرئيسى وقف الملك رمسيس الثانى شامخًا، أما القاعات الاثنتا عشرة فهى مُقسمة حسب العصور التاريخية وبنظام إضاءة ذكى، وتحكم فى درجة الحرارة والرطوبة تم توفير الظروف المثالية لحماية كنوز الأجداد.
لقد استغرق تشييد المتحف 12 عامًا من العمل الدءوب، بمشاركة ثلاثين دولة بخبراتها، وآلاف العمال المصريين، وعلى مساحة شاسعة حوالى مائة وسبعة عشر فدانًا «117» تجلى المتحف بمكتباته الضخمة، ومعامله المتطورة، ومركز الترميم الذى يُعد الأكبر، وقاعة مؤتمرات تتناسب مع عظمة المكان، فإذا رأيت المسلة المُعلقة التى تزن ثمانين طنًا فتذكر أنها تمثل تحديًا هندسيًا، ورمزًا للابتكار فتعليقها على ارتفاع ثلاثين مترًا يسمح للزوار برؤية خرطوش الملك رمسيس الثانى أسفل القاعدة، فهو الملك الذى ألهم الأدباء وأذكر أن نجيب محفوظ فى روايته «أمام العرش» تحدث عن هذا الملك العظيم وإنجازاته وانتصاراته، فقد كانت معركة «قادش» أشهر معاركه، وكان صاحب أول معاهدة سلام مكتوبة فى التاريخ، وعُثر على نسخ منها فى الأمم المتحدة.
أما مقبرة توت عنخ آمون فهى التى تحتوى على أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية، بالإضافة الى قناعه الذهبى، وهو أشهر قطعة أثرية فى العالم وهو يزن أحد عشر كيلو جرامًا من الذهب الخالص مع تفاصيل من الفيروز واللازورد، مما يعكس براعة الفنان المصرى القديم، صانع الحضارة وصائغ الذهب، وبُناة مصر الحديثة هم خير أبناء لخير أجداد احتفالًا بالحياة والقدرة على البناء والتجدد والإفادة من التراث فى صنع المستقبل.










