الثلاثاء 18 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«مصائر» ونوس.. ومبدعة صغيرة!

من اللافت أن تقدم شابة صغيرة فى مطلع العشرينيات على قراءة وتحليل وإعداد «طقوس الإشارات والتحولات» للكاتب سعد الله ونوس النص الأصعب والأكثر زخما بأبعاده السياسية والإنسانية والاجتماعية، نص يحمل تشريحا نفسيا وإنسانيا لواقع البلدان العربية لتتناوله بجرأة وثقة إخراجا وإعدادا.. شاركت به ضمن فعاليات مهرجانات مسرحية الأول مواسم نجوم المسرح الجامعى، ومؤخرا ضمن فعاليات مهرجان إيزيس الدولى لمسرح المرأة، شىء يبعث فى النفس الأمل ويدعو للتفاؤل.



 قدمت المخرجة الشابة سارة نجم إعدادها لنص ونوس بعنوان «مصائر» مشيرة إلى تحولات القدر والمصائر التى تواجه شخوص أبطال المسرحية الأصليين فى رحلة صراعهم مع القدر.. يقول سعد الله ونوس «المسرح الذى نريده هو الذى يدرك مهمته المزدوجة.. أن يعلم ويحفز متفرجيه.. المسرح الذى لا يريح المتفرج أو ينفس عن كربته بل على العكس الذى يقلق ويزيد المتفرج احتقانا وفى المدى البعيد يهيئه لمباشرة تغيير القدر»، يلعب القدر لعبته مع شخوص «طقوس الإشارات والتحولات» التى تعد أغلبها شخصيات تراجيدية تتغير وتتحول أقدارها بتغير وتبدل الأحداث من حولها.  تدور المسرحية حول حادث يقع لنقيب الأشراف عندما يضبطه قائد الدرك فى وضع مخل مع خليلته بحديقة منزله ويقرر القبض عليه وفضحه بين العامة فى الشوارع، يعلم المفتى بهذا الحادث وبرغم تآمره مع قائد الدرك من البداية.. إلا أنه يقرر معاقبته فى محاولة ملتوية لإنقاذ نقيب الأشراف من السجن واستبدال الغانية بزوجته حتى ينفى صحة هذا الخبر ويؤكد أن قائد الدرك أخطأ وقبض على الرجل وهو فى خلوة مع زوجته، تتوالى أحداث المسرحية التى تتعدد شخوصها ومصائرهم.

اتخذ ونوس من تعقيدات النفس البشرية طريقا لغزل وبناء هذا النص المسرحى البديع الذى يحمل مزيجا من متعة القراءة والمشاهدة لما أبدعه هذا الرجل من بلاغة فى الكتابة وخيال فى رسم الأبعاد النفسية والإنسانية للشخصيات التى تقع فى صراع مرير بين ما تظهره من أفعال وما يبطنه الضمير، فما يبدو من أفعال ومظهر اجتماعى لكسب وإدارة مصالح شخصية.. يتناقض مع دواخل هذه الشخصيات وحقيقتها التراجيدية أو ما تطمح إليه وما يهيئه لها القدر من تقلبات غير متوقعة، يحمل هذا النص تأملات طويلة فى أعماق النفس الإنسانية وتقلب أحوالها من النقيض إلى النقيض.. جذبت هذه التحولات المخرجة الشابة سارة نجم وقررت الإقبال على تقديم تلك المسرحية الصعبة والشائكة بجرأة وثقة.

    ناقضت سارة النص الأصلى وقدمت رؤية لنهاية المسرحية تناقض الرؤية التراجيدية التى أغلق بها ونوس رائعته بمقتل «ألماسة» على يد أخيها بعد احترافها مهنة الدعارة، بينما قررت سارة أن تمنحها الحياة والسيادة فأصبحت هى سيدة الموقف وسيدة العرض، اختزلت المخرجة شخوص المسرحية المتعددة والتى تعددت أوجههم وتحولاتهم عبر الأحداث، وجاء تركيزها الأكبر حول صراع المفتى مع نقيب الأشراف والوقوع فى حب زوجته مع كل التحولات التى سوف تطرأ عليهم، يتحول قدر نقيب الأشراف من الفجور إلى التصوف، ثم تتحول الزوجة التى تقرر التحرر من كل تقاليد وأعراف المجتمع بإقبالها على إتقان فنون الغواية على يد العاهرة «ورد»، ليتبدل اسمها وحالها من «مؤمنة» إلى «ألماسة»، ثم يتحول المفتى معها من رجل وقور يتحدث بتعاليم الشريعة والدين يحلل ويحرم، إلى رجل عاشق متجرد من عمامته التى تحوى أفكاره ملقيا بثقل تطرفه لينزلق معها فى خفة إلى الغواية.  لم تكن «ألماسة» أو «مؤمنة» رمزا للعهر بمعناه الحرفى أو المتعارف عليه بينما تعد تلك المرأة البطلة الأكثر صدقا ووضوحا بين كل شخصيات العرض، هى رمز للثورة على التقاليد والثورة على الزيف والرياء والتملق بخروجها عن كل ما هو مستقر وآمن، وإقدامها على تحرير نفسها وجسدها من قيود الادعاء والتدين السطحى الذى لا طائل منه، ربما كان العهر هنا ليس عهرا فى حد ذاته بل هو رمز للجموح والحرية بالخروج عن المألوف.. كما استخدمت هذا التعبير حديثا الكاتبة الأمريكية «شيرى أرجوف» فى مؤلفها الأشهر «لماذا يحب الرجال العاهرات؟!».. أعادت «أرجوف» تعريف «العهر» فى سياق آخر، فهى لا تقصد بالعاهرة المرأة التى تمارس البغاء للحصول على مقابل مادى بينما أرادت أن تحلل سلوك المرأة صاحبة الموقف الواضح والشخصية القوية ذات الحيثية التى يقيم لها الرجل ألف حساب.. المرأة التى تملك زمام الأمور قادرة على الرفض والتخلى عندما لا تجد المكان مريحا أو مهيأ لإسعادها، لا تظهر خوفها من أن تكون دون رجل وإذا خيرت بين كرامتها والعلاقة حتما ستختار كرامتها. هكذا فعلت «ألماسة» فى مسرحية «ونوس» لم تكن عاهرة بالمعنى الحرفى للكلمة بينما جاء تحولها لهذا النقيض رمزا للمرأة صاحبة الموقف والقرار، رمزا للصدق والاتساق مع النفس، تتحرر من كل ممارسة للزيف والرياء والنفاق الاجتماعى، جعلت سارة من هذه السيدة رمزا للحياة بدلا من أن تقضى عليها بالموت كما جاء فى نهاية المسرحية الأصلية، قراءة وتفسير شديد التطلع والذكاء رؤية لافتة لمخرجة شابة حديثة العهد بالإخراج، ليس شائعا بين هذا الجيل أن تتجاوز شابة فى مقتبل العمر الأشكال النمطية التقليدية فى قراءة النصوص المسرحية كأغلب جيلها من الشباب وتحمل فكرا ورؤية مغايرة لرؤية كاتب كبير حين  قررت أن تجعلها سيدة الموقف والمفتى تابعا لها بعد أن تحول عبدا ملك يديها تفعل به ما تشاء، نزعت عنه وقاره ورياءه بنزع عمامته.. فى مشهد بديع تنتهى به أحداث «مصائر» ونوس والمفتى العاشق يخرج عن وقاره مسلوب العقل والوعى يضرب لحبيبته على الدف وهى تتلوى أمامه فرحة منتصرة بحركاتها الراقصة ثم يغلق الستار بعد أن تهدأ وتخفت الإضاءة تدريجيا ليتوقف العرض والقدر هنا، ردته ألماسة إلى نفسه الأصلية التى تميل إلى الشهوة والغواية فهى صاحبة الكلمة العليا.

 ربما حمل العرض بعض عيوب التجربة الأولى فى الإضافة والحذف وأحيانا فى وعى بعض الشباب المشاركين فى استيعاب الأبعاد النفسية ودواخل الشخصيات التى قاموا بأدائها، بينما كان محمد الحضرى فى دور المفتى حضور خاص وكذلك أحمد يسرى فى دور نقيب الأشراف، أتقن الاثنان بوعى ومهارة كبيرة لعب كلا من شخصية المفتى ونقيب الأشراف وكأنهما أصحاب خبرة طويلة بالمسرح، «مصائر» تجربة مسرحية ملهمة لمخرجة شابة أرادت التعبير عن نفسها وعن كل ما يؤرق جيلها بتناول زاوية من أزمة تحولات النفس البشرية.