الإسهامات الإنسانية لبلاد ما وراء النهر
أحمد عبده طرابيك
أحمد عبده طرابيك يكتب:
أطلق المسلمون العرب على إقليم آسيا الوسطى «أوزبكستان، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان» اسم «بلاد ما وراء النهر» بعد الفتح الإسلامى لتلك المنطقة فى القرن الأول الهجرى، وقد جاءت التسمية نسبة إلى النهرين العظيمين - سرداريا الذى أطلق عليه العرب اسم «سيحون»، أموداريا «جيحون» - اللذان يجريان فى الإقليم، وكانا السبب الرئيس فى ازدهار المنطقة حضارياً، شأنها فى ذلك شأن أحواض الأنهار الكبرى فى العالم التى كانت السبب فى قيام الحضارات العريقة، كالحضارة المصرية حول نهر النيل، وحضارة بلاد الرافدين فى العراق، والحضارة الصينية وغيرها.
كانت بلاد ما وراء النهر حاضرةً بعلومها وفنونها، وغنية بمواردها، فى منتصف القرن السابع الميلادى حين وصلت جيوش المسلمين الأولى إلى ميرف «تركمانستان»، وبَلْخ «أفغانستان»، وخلال العقود التالية، عبر المسلمون نهر جيحون إلى بُخَارَى، وسمرقند، وخوارزم «أوزبكستان» وخلال أقل من قرنين من الزمان أصبح أغلب علماء هذه المنطقة من المسلمين، وقد سادوا الحياة الفكرية فى العالم الإسلامى بأكمله، الذى كان ممتدًا حينها من أسبانيا إلى الهند، وقدموا إسهامات عظيمة فى العلوم الطبيعية، والطب، والفلسفة، والموسيقى، والأدب، ومختلف فروع العلم والمعرفة.
لقد كانت الثقافة المزدهرة لهذه المنطقة مستندة إلى خليط من الأعراق واللغات والأديان، وتراثٍ فكريٍ عريقٍ، وخلال القرون الوسطى، نقلت أوروبا العلوم من العالم الإسلامى المجاوِر، وامتزج ذلك مع ما نقلوا من علوم وحضارة ما وراء النهر، الأمر الذى أسهم فى تأصيل هذه المعرفة، وإكسابها المنهج العلمى الشكلى، مما ساعد على ازدهارها وانتعاشها فى أوروبا، بينما كان العلم يحتضر فى العالم الإسلامى.
خلال فترة الريادة الفكرية للمنطقة، والتى استمرت لما يزيد على ثلاثة قرون، كانت اللغة الأدبية السائدة هى اللغة العربية، حيث أصبح الناس يؤلفون ويكتبون بالعربية، فانتشرت متاجر الكتب فيما وراء النهر، كما كان ازدهار العالم الإسلامى وراء ازدهار العلوم والفنون والثقافة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، فقد أدت الوحدة اللغوية للعرب إلى أزدهار العلوم والفلسفة فى ظل الإسلام بشكل أساسى.
لقد قاد العديد من علماء بلاد ما وراء النهر عملية النهضة التى شهدها العالم الإسلامى ووصل شعاع أنوارها إلى أوروبا التى كانت تعيش عصورها المظلمة، والتى لم تنهض إلا بما اقتبسته من اسهامات العلماء المسلمين، الذين كثر عددهم لدرجة يصعب على أى باحث حصرهم.
تقديراً لدور علماء بلاد ما وراء النهر فى ازدهار الحضارة الإنسانية، تنظم كلية الآداب بالوادى الجديد - جامعة أسيوط - بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية مؤتمرها الدولى الثانى تحت عنوان «اسهامات بلاد ما وراء النهر فى إثراء الحضارة الإسلامية» يومى 3، 4 إبريل 2016، حيث نافست حواضر بلاد ما وراء النَّهر «بخارى، سمرقند، خوارزم، فرغانة، الشاش، بلخ، وغيرها» حواضر الخلافة الإسلامية فى المشرق العربى «بغداد، القاهرة، حلب» فى العلوم والفنون والآداب، فغدت بخارى مركزًا إسلاميا متقدما فى وسط القارة الآسيوية يضاهى بغداد والقاهرة، كما كانت سمرقند مهداً للحضارات شأنها شأن مهد الحضارات الإنسانية الأخرى أمثال، بابل وممفيس وأثينا وروما والإسكندرية، على حد قول الدكتور سعد عبد الغفار، أمين عام المؤتمر، فضلًا عما أنجبته بلاد ما وراء النَّهر من كبار رجالات العلم فى تاريخ الحضارة الإسلامية من المحدثِّين والمفسرين والمؤرخين والجغرافيين والأطباء والفلكيين والفلاسفة والأدباء، أمثال الإمام البخارى، الماتريدى، الزمخشرى، الشاشى، الترمذى، الخوارزمى، الفارابى، البيرونى، ابن سينا، وغيرهم الكثيرون.
يهدف المؤتمر إلى إلقاء الضوء على إسهامات بلاد ما وراء النهر فى إثراء الحضارة الإسلامية، وإبراز العلاقات الثَّقافية والتاريخية بين بلاد ما وراء النَّهر والمشرق العربى، وتعريف القارئ العربى بالتراث الحضارى فى بلاد ما وراء النهر، ومد جسور التعاون بين العلماء والباحثين العرب والعلماء والباحثين فى منطقة آسيا الوسطى، وهى من دون شك أهداف نبيلة من شأنها أن تشحذ الهمم وتعبئ الجهود لاستحضار تلك الروح التى قادت العالم الإسلامى لعصر النهضة والازدهار، وكانت مصدر إشعاع حضارى للعالم كله.