الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«المدابغ» قنبلة موقوتة خلف «سور مجرى العيون»

«المدابغ» قنبلة موقوتة خلف «سور مجرى العيون»
«المدابغ» قنبلة موقوتة خلف «سور مجرى العيون»




تحقيق وتصوير - محمود ضاحى

أناس كتب عليهم الشقاء.. غلابة وبسطاء جلدتهم الحياة بعيشتها، فقرروا الهروب فى أحضان مدابغ «الجلود»، خوفا من برد معيشة قارصة.. ذاقوا المرار.. فكان للحلقوم نصيباً من الروائح النتنة.
من أصواف الضأن، الإبل، والماعز والبقر، سترُ الله لعباده، منها جعل خليفة آدم كاملا فى هندامه، فقال تعالى « والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعًا إلى حين».
أنفاس مكتومة بين روائح جلود كريهة، وكان ذلك سمة سائدة فى جولتنا داخل منطقة المدابغ بمصر القديمة خلف سور مجرى العيون بالقاهرة.. عواجيز.. شباب..
أطفال.. كل يبحث عن قوت يومه، ما بين حمّال وعربجى وأزقة مزدحمة برجال دفعتهم لقمة حلال شريفة نحوها، فعلى بعد أمتار من مستشفى 57357 لسرطان الأطفال بمنطقة السيدة زينب، كان موعدنا مع عمال الدباغة، مشاكل.. حكايات.. أسرار.. مطالب نسردها فى السطور التالية.
البداية
بعد إنهاء الجزارين عملية ذبح الماشية، يجمع أحد الأشخاص جلودها لبيعها لأصحاب المدابغ، ويتم نقلها عن طريق العربات النصف نقل والمؤهلة لنقل كميات كبيرة فوقها، ويلقى كميات هائلة من الملح فوق الجلد خوفا من التعفن حتى يصل إلى المدبغة، ويمر الجلد بعدة مراحل بعد التمليح، هى إزالة الشعر، ثم مرحلة إزالة الدهون والشحوم، ثم التحنيط، والتى تجعله قادرا على البقاء فترة أطول.. وذلك حسب وصفه «حسن الغازولي» الذى يبلغ من العمر ثلاثين عاما، ويعمل منذ 10 سنوات بين أحضان المدابغ.
ويضيف الغازولي: بعد الملح تبدأ مرحلة الأكس وإزالة الشعر، وتجيير الجلد الجاموسي، ثم مرحلة «الدق» وفيها نشادر وكروم لاستخراج أى مواد جيرية موجودة فى الجلد، ثم مرحلة التحنيط بالملح الأبيض ومياه النار، وتستخدم الفضلات فى صناعة «الغراء» فى الموبيليا والأخشاب.
وأكد أن عملية الدباغة تمر بـ 14 مرحلة، وكل منها تحتاج لعمالة زائدة، لكن تكمن المشكلة فى تحكم بائع الجلود فى سعر بيعها إذ لا يوجد مراقبة على الأسعار، وسعر كل جلد يتحكم فيه نوع الحيوان ذكر كان أو أنثى وحسب سُمك جلده يحدد سعره واستخدامه، فالماعز للحذاء والمصنوعات الخفيفة، وجلود الجاموس يصنع منه الأحذية والجواكت والملابس الثقيلة، ويستخدم الملح السكرى لتمليح الجلد الجاموسي، والجلد الخشن، أما الملح الناعم فيستخدم لتمليح جلود الماعز والضأن.
وواصل: نشترى من جميع المحافظات وليس المدبح فقط، والجلد الصدقة الذى يتم جمعه وقت الأضحية كان منذ 5 سنوات قبل الثورات وفيه مكسب كبير، لكن مع الوضع العام للدولة منذ الثورة لم يعد متوفرا كما كان من قبل، فكانت إدارات كل مسجد تبيعها بسعر أقل وتوزع ثمنها صدقات، مشيرا إلى أن الجلد البقرى والجلد الجاموسى له مدبغة متخصصة فى دباغته.
 «المعلم حسن عاشور - 42 عامًا صاحب مدبغة - تطرق فى حديثه إلى أن المعدات الغالية المستوردة من الخارج كان لها جانب سيئ فى الصناعة بسبب الدولار وارتفاعاته.
ويشير إلى أن الجلد البقرى والجاموسى سعر القطعة الواحدة 440 جنيها، إضافة إلى 10 جنيهات ملح، كما أن لكل جلد سعر وموسمنا الأساسى هو عيد الأضحى المبارك، وأفضل المواسم لنا فالغنى والفقير كله بيكسب.
ويضيف: أن العامل أجره اليومى 65 جنيها، منها سجاير وفطار وغذاء وشاى على مدار اليوم ولا تكفيه، وعن وصف حالته أضاف: «أدفع إيجار 700 جنيه فى الشهر، ويوميا أنفق 10 جنيهات مواصلات، وعلبة سجاير 13 جنيها، وفطار وغداء 20 جنيها، وكل هذا محسوب من اليومية، غير لو ولد من أولادى تعب ومحتاج يروح للدكتور، واليومية مش بتكفى أى شيء فى الغلاء اللى بنعيشه، فماذا لو نفذوا قرار النقل إلى الروبيكي، هدفع مواصلات كتير وهضيع وقت أكتر من بولاق حتى الروبيكي، وكدا هضطر أترك المهنة وأشتغل فى أى مهنة تانية، ولو تم توفير معدات ووحدات سكنية فى الروبيكى فأنا على استعداد للذهاب إلى هناك من الآن».
ويقول ( ح - ن) 55 عاما، صاحب مدبغة - طلب عدم ذكر اسمه - إن كبار العاملين بالمهنة لهم دعم كبير من الخارج ويتحكمون فى سوق التصدير عن طريق علاقاتهم مع الغرف التجارية، ومحتكرى التصدير للخارج مثل محمد حاتم ومصطفى حسن»، لكنه لا يملك امكانيات التصدير.
وأضاف: «قرار نقل المدابغ خراب على صغار الصناع، ومحتاجين إمكانيات فى الروبيكي، والماكينات هناك بمبالغ مرتفعة ولا نستطيع تسديد ثمنها، وستجعلنا نلجأ للقروض التعجيزية فى وقت تسوء فيه الحالة الاقتصادية للدولة، موضحا: لنا سقف منقدرش نعلى عنه ولا نتحداه، ويوجد تطوير بالفعل فى الدولة، لكنه للمتحكمين فى الغرفة التجارية وليس للغلابة أصحاب السوق المحلية».
ونوه إلى أن هناك مشاكل كثيرة فى منطقة الروبيكي، وخاصة وجود البدو الذين لن يتركونا نعمل، كما ستتعرض بضاعتنا للسرقة، مشيرا إلى أنه فى هذه المنطقة حوالي‏320‏ مدبغة مسجلة بالغرفة التجارية لصناعة الجلود على مساحة تقدر بحوالي‏65‏ فدانا.
الحاج «مصطفى أحمد» 50 عاما، قال: أنا رجل لا أتحمل الذهاب إلى الروبيكي، وعملى قائم على ما يقدمه لى أصحاب المدابغ من مساعدات، وأمد يدى لأصحاب المدابغ عطفا لأصرف على أولادي»، مضيفا أنه ليس لديه أى تأمينات أو معاشات تحفظ مستقبله، ولو نقلت المدابغ من سور مجرى العيون ستختفى المهنة - على حد قوله.
«ناصر سلام مهندس كيميائي» 58 عاما، أكد أن الأباطرة يسيطرون على سوق المدابغ، بينما يوجد 90% من أصحاب المدابغ يعملون على السوق المحلية، لكن أغلب العمال لن يستطيعوا الذهاب إلى الروبيكي، ولا يملكون شهادات ولا تأمينات ولا مؤهلين للعمل من الأساس تحت نظام حديث، بل اعتادوا على النظام العشوائى فى العمل، وأكد رفضه لفكرة النقل إلى الروبيكي، وأوضح «سلام»، أن المواد الكيميائية المستخدمة فى عملية الدباغة تسبب أمراض سرطانية وجلدية للعمال بمرور الزمن، ولها تأثيرات ضارة خاصة وأنها مستوردة وتتعرض لعمليات الغش، لكن الأغلب من العمال أميون لا يدركون أضرارها.
وقال إنه عند إزالة الشعر من جلد الحيوان تضاف مادة «كبريتيد الصوديوم» مع الجير الحى وحوالى من‏200‏ إلى ‏300% مياه من وزن الجلد‏، ثم يدور البرميل لمدة نصف ساعة ويتوقف لمدة ساعتين لضمان نفاذية المواد الكيماوية إلى مسام الجلد وانتفاخه حتى يسهل إزالة الشعر، وأوضح، أنه بعد إزالة الجير تتم إضافة المياه بنسبة ‏300‏ إلى ‏400‏ من وزن الجلد والكيماويات المستخدمة فى هذه العملية تتكون من كلوريد الأمونيوم‏ كبريتات الألمونيوم الصابون‏ والأوربون وتستغرق هذه العملية ‏24‏ ساعة، مضيفا أن العمال وأصحاب المدابغ يعتمدون على سرقة الكهرباء والمياه، ناهيك عن المجارى التى تعوم فيها الأزقة الضيقة، أما العمال فلن يستطيع أحد تحريكهم للروبيكي.
محمد محمود - شاب يبلغ من العمر 27 عاما - يضيف أن الجلد المصرى من أحسن الجلود فى العالم، لكن هناك مجموعة كبيرة بدأوا يحتكرون السوق، والكثير من أصحاب المدابغ الآن أصبح يستورد أحذية «اسكاي»، من السوق لكنها خطيرة جدا تسبب سرطانات جلدية، والسبب أنه لا يوجد بها عوامل التعرية فى الجلد.
ولو بحثنا عن أى صناعة فى مصر سنجد لها أضرارا على الإنسان، وبالفعل المدابغ تسبب أمراضا جلدية وفى الجهاز التنفسي، وكل العمال لا توجد لهم شهادات مزاولة مهنة، فالمشكلة ليست فى قرار الحكومة لكن فى العمالة لا تأمينات ولا يومية تكفى طلبات منزله، وأكد أنه لو تم توفير سكن سينتقل برفقة أسرته إلى هناك، ليكون العمل بجوار سكنه، إضافة إلى ذلك بناء المستشفيات والمدارس حتى يكون المكان مهيئا للمعيشة.
وقال نبيل الشيمى - مدير عام غرفة صناعة الجلود فى مصر - إن قرار نقل المدابغ للروبيكى سيطبق خلال أسابيع، مضيفا: أن الغرفة تتلقى بيانات أصحاب المدابغ من عمال وأعداد المعدات ومساحة المدبغة لتعويض أصحابها بعد نقلهم هناك خاصة أن هناك معدات جديدة وعمل على مستوى راق، مشيرا إلى أن مصر أفضل دولة تصنع جلودا والدولة تعمل على وضع فنون جديدة فى المهنة.
وأضاف: أن أغلب العمال فى سور مجرى العيون رافضين تماما للقرار خاصة أن المادة الخام ومعدلات الذبح فى القاهرة خاصة من مدبح البساتين كثيرة جدا، موضحا أن أغلب العمال لا يوجد تأمينات عليهم، وقرار نقلهم للروبيكى أفضل لحقوقهم.
ولفت إلى أن كل مدبغة أغلب عمالها من أسرة واحدة، لكن العمل على إنشاء مدابغ جديدة ممنوع بالقانون لمنعه من بناء أى مدبغة على أرض عمرانية، مشيرا إلى أن هناك بالفعل محتكرين للمهنة، وأن هناك ما لا يقل عن 90% من الأحذية خامة «سكاي» مضروبة من الصين وبعض الدول الأخرى ومن الصعب على المواطن العادى التفريق بين الاثنين، وكل له سعر مضيفا»: على قد لحافك مد رجليك».
من ناحية أخرى قالت الدكتورة منى سليمان - أستاذ الصحة العامة - أن أغلب العاملين بهذا المجال يصابون عن طريق معدتهم نتيجة الأكل الملوث، وعن الأمراض المعوية يصاب أيضا بالتيفود والباراتيفود والالتهاب الكبدى A، والالتهاب الكبدى C، ذلك عن طريق الأيدى الملوثة.
وأكدت «سليمان»: أنه فى حال وجود فئران فى المجارى فيصاب بأمراضها والتى منها ليبتوسيبروسيز وهو مرض شائع وخطير تبدأ أعراضه بحرارة ثم يؤدى إلى تضخم فى الغدد الليمفاوية.
وقال الدكتور هانى الناظر - أستاذ الأمراض الجلدية ورئيس المركز القومى للبحوث السابق - إن العاملين بصناعة الجلود، يصابون بالحساسية التلامسية، أو الأكزيما التلامسية، وذلك من خلال التعامل مع المواد الكيماوية فى المدابغ بدون ارتداء وسائل الحماية، وتكون عبارة عن التهابات جلدية تصاحبها هرش ثم فقاقيع نتيجة التلوث البكتيري، معتبرا أن هذا المرض هو الأكثر انتشارا بين العمال.
وأضاف «الناظر» لـ«روزا ليوسف»، أن هناك نوع فيروسات يكون موجودا فى جلد الحيوانات، لكنها نادرة وتصيب الإنسان أثناء التعامل مع جلد الحيوان وتكون عبارة عن تكتلات جلدية رمادية خشنة تظهر فى الجلد وهو مرض فيروس معدى معروف باسم «السنطة».
وأشار إلى أن المواد الكيماوية تصيب الإنسان العامل فى المدابغ بحساسية بصرف النظر إن كانت المواد مغشوشة أو مستورد أو مصنعة تحت بير السلم فأضرار الكيماويات تصل للحروق، منوها إلى أنهم يصابوا بالشعب الهوائية أثناء استنشاقهم روائح الكيماويات.
وبدوره أكد خالد مصطفى - المتحدث باسم محافظة القاهرة - أنه جار نقل 68 مدبغة إلى الروبيكى من إجمالى عدد المدابغ 1000 مصنع، مؤكدا أن وزارة التجارة والصناعة حددت التعويضات - كل حسب حالته - من خلال لجنة مكونة من محافظة القاهرة والحى ووزارة الصناعة وهيئة التنمية الصناعية..وأكد «مصطفى»، أنه جار التنسيق مع وزارة الإسكان لتوفير وحدات سكانية للعمال والتى من المقرر أن تكون فى مدينة العاشر من رمضان أو مدينة بدر.