الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مشاهدات من انفجار مرفأ بيروت بيروتشيما .. المشاهدة الثانية

أنْطُونّـى

اللوحة - أحمد رزق
اللوحة - أحمد رزق

جلست آمال على السرير فى غرفة ابنها، أشعلت شمعة صغيرة ووضعتها بالقرب منها، لم تعد تقوى على البكاء ولا حتى على التفكير، تجمد كل شىء براسها، كانت قد بدأت لتوها باستعادة رشدها واستيعاب ما جرى، أحيانا لا تصدق ما جرى وترجو بان يكون حلما مزعجا سيزول مجرد أن تفتح عينيها، ثيابها السوداء التى ارتدتها منذ اكثر من سنة حدادا على والدها لا تزال على جسمها وكأن قدرها أن تظل مرتدية هذا اللون القاتم لفترة طويلة، ورغم أنها من جيل تربى وقت الحرب التى عصفت فى بلدها لسنوات طويلة ومن المفترض أن تكون معتادة على الالم ومناظر القتل والدمار، لكن هذه المرة ومع الدقائق القليلة التى شكلت وقت الفاجعة عند حصول الانفجار كانت اطول من كل سنوات الحرب.



 

دقائق بل ربما ثوان فقط جعلت من غرفة ابنها كالبيت بأسره بل كبيروت بكاملها، مقلوبة رأسا على عقب، جدران متشققة ونوافذ محطمة، زجاج متناثر ومداخل بلا ابواب وسقف فقد اجزاء منه يتحضر للوقوع بأى وقت، لحظات الفاجعة لم تفارق بالها، ففى الرابع من شهر  أغسطس كان برفقة ابنها انطونى فى المنزل، تناول وجبة الغداء وذهب لغرفته للنوم طالبا منها أن توقظه عند الساعة السادسة ليحضر نفسه لملاقاة اصحابه فى منطقة الجميزة حيث يقطنون ليذهبوا للعب كرة السلة فى أحد الملاعب القريبة بعد مغيب الشمس هربا من حرارتها اللاهبة فى مثل هذا الوقت من السنة، قبل الموعد بدقائق ذهبت لتوقظه لكنه طلب منها أن تتركه لربع ساعة اخرى ووعدها بالنهوض وحده وكانت هذه عادته، تقوم هى بايقاظه ويحتاج لفترة للنهوض وترتيب راسه كما كان يقول لها، فتركته لتحضر له كوبا من عصير الفريز (الفراولة) المفضل عنده لدرجة انها قد خزنت كمية كبيرة منه فى الثلاجة لانه كان يشربها كل يوم، حملت الكوب واتجهت إلى البلكون لتضعها على الطاولة، ولم تكد تصل إلى الصالة بطريقها إلى المطبخ لتحضير فنجان قهوتها حتى دوى الانفجار الكبير فرماها إلى آخر الصالة بجانب مدخل الشقة فغابت عن الوعى تماما، مرت ساعة تقريبا قبل أن تستفيق كالتائهة غير العالمة بما جرى، لحظات مرت لتستوعب الأمر فقامت وجرت نحو غرفة انطونى وهى تعرج بسبب قطعة زجاج اخترقت رجلها لترى الغرفة ركاما لانها كانت مواجهة لمنطقة المرفا كليا، بدأت بالصراخ باعلى صوتها لكن لا مجيب ندهت باسمه عشرات المرات، ولم تسمع الا اصوات صراخ من الخارج، اصوات الم واستغاثة، توجهت نحو السرير تحاول رفع الركام من فوقه لكن الحجارة كانت ثقيلة وبالكاد استطاعت زحزحتها، اخذت بالصراخ بشكل هستيرى واحست بصوتها يخفت وقواها تخور، فبالاضافة إلى رجلها كانت قد اصيبت باكثر من مكان وكانت الدماء تسيل من وجهها وكتفها الايسر، لكن خوفها وهلعها على ابنها جعلها لا تحس بالامها، واظبت على الصراخ إلى أن دخل احد الجيران فتوجه اليها مباشرة فرجته أن ينقذ ابنها، فبدأت معه برفع الحجارة والاخشاب والزجاج عن السرير إلى أن وجداه جامدا لا يتحرك حاولا هزه بقوة لإيقاظه دون فائدة، فحاولت لا شعوريا أن تحمله لكن قواها لم تسعفها، فازاحها الجار.

 

فحمله وركض به نازلا السلم إلى الشارع الذى كان قد تحول إلى غابة من الحطام، علم الجار انه لا وقت لديه لانتظار الاسعاف او اى سيارة او وسيلة نقل والمستشفى لم تكن بعيدة فاكمل جريه وانطونى على يديه وآمال تجرى خلفه مستنفدة ما تبقى من قوتها، دقائق مرت كالساعات إلى وصلا إلى المستشفى الذى كان قد تدمر جزئيا هو الاخر، وكان المسعفون والاطباء قد انتشروا على الارصفة فصرخ الجار ليساعدوه فاخذوا منه انطونى ومددوه على الارض قاموا بفحصه ومحاولة انعاشه ثم وضعوه على عربة المرضى وحاولوا وضع الاوكسيجين ومن بعدها بالصدمات الكهربائية لكنه كان قد فارق الحياة، فقطعة من الزجاج كانت قد اخترقت قلبه ويبدو انها ادت إلى وفاته فور اصابته، لم تصدق امال عينيها حين قام الطبيب بتغطية رأسه بقطعة قماش بيضاء، فاخذت بالصراخ الهستيرى من جديد طالبة من ابنها أن ينهض من نومه غير مصدقة ما يجرى إلى أن حقنها احد الاطباء بحقنة مهدئة، وقام بنقل الجثة إلى احدى الغرف الخارجية من المستشفى التى كانوا يجمعون فيها جثث ضحايا الانفجار.

 

قام الجار بالاتصال باهل واقارب امال وابلغهم بما جرى استغرقوا بعض الوقت ليصلوا إلى المستشفى بسبب الحال الجنونية للطرقات، فبعضها اقفل بالحطام والبعض بالجثث والجرحى والبعض الآخر بسيارات الاسعاف عربات الاطفاء، وصلوا وفتشوا عن آمال ودلهم الجار إلى جثة الابن، لم يكن احد منهم يعى ما سيقوم به لاحقا، بقوا بضع ساعات فى المستشفى إلى أن قرروا التوجه لمنزل احد الاقارب الذى لم يتضرر من الانفجار.

 

كان انطونى ورغم انه لم يتجاوز السادسة عشر ربيعا يتمتع بشعبية واسعة فى المنطقة التى يقطن بها، فكان يساعد الجميع ويقدم الخدمات التطوعية، اما فى مدرسته فكان من الاوائل ومواظبا على النشاطات الدينية والثقافية والرياضية والفنية، اى وباختصار كان على علاقة بالجميع دون استثناء ومحبوبا من قبل كل من يعرفه، وسرعان ما انتشر خبر مقتله فتوجه العشرات إلى المنزل حيث ذهبت امال والاقارب، لم يصدق احد منهم رحيله المبكر.

 

جنازته كانت اقرب من حفل بتخرجه في المدرسة، فاصحابه ارتدوا ثياب المدرسة وحملوا نعشه، ومشى امامهم معظم اساتذة المدرسة والطاقم الاداري، انطلقت الجنازة من المستشفى وانتقل الجميع إلى المدرسة حيث ألقيت كلمات من مدير المدرسة واساتذته وزملائه، ثم انتقلوا إلى المنزل حيث قتل ثم إلى مقره الاخير أى المدافن، حيث جرت مراسم الدفن بهدوء وتم وداعه الوداع المر، ظل عدد من رفاقه المقربين بجانب المدفن لساعات حتى مغيب الشمس، وضع كل منهم تذكارا امام المدفن، هذا ترك كرة سلة التى لطالما عشق تمضية الوقت بلعبها، واخر ترك له كراسة رسوم كانا يرسمان عليها سورية، واخر وضع صورتهما معا، وتلك وضعت باقة صغيرة من الورود الحمراء..

 

عانت امال كثيرا لتربية ابنها، فعندما خطف زوجها ولم يستطع احد الكشف عن مصيره وكانت لا تزال حاملا بشهرها السادس بانطونى قررت أن تبقى فى المنزل بعد أن ولدت ابنها رغم معارضة اهلها بان تظل معهم بدلا من أن تكون وحيدة طوال الوقت، لكنها صممت على موقفها مقررة أن تهب حياتها لهذا الطفل الذى لم ولن يرى والده طوال حياته، فكانت طوال السنوات الماضية الاب والام معا، نظمت وقتها وعملها فى احدى المؤسسات الحكومية لتكون مع ابنها فى البيت ما امكن من الوقت، كانا يخرجان صباحا توصله إلى المدرسة وتذهب لعملها وتعود ظهرا لاصطحابه إلى المنزل، وعندما كبر رجاها الف مرة لتتركه يذهب بمفرده لانه بدا يحس بالاحراج من زملائه فرضخت له لكنها كانت تمشى وراءه دون أن يحس بها فلم تكن تطمئن عليه الا بهذه الطريقة، ورغم هذا كان صاحب شخصية قوية ولديه نزعة كبيرة ليكون مستقلا عنيدا، كان رجلا صغيرا بهيئة فتى مشاغب.

 

آمال الام المفجوعة عادت بعد مراسم الدفن إلى الشقة شبه المدمرة، ترفض البقاء عند اى من اقاربها، تفكر بمسار حياتها والسواد الذى يحيط بها، فقدت زوجها خلال الحرب ومنذ سنة تقريبا فقدت والدها، وها هى الان تودع ابنها، الذى كان من المفترض أن يتمتع بالامان فى منزله وغرفته، كل الذنب الذى اقترفه بانه شعر بالامان فى غرفته ونام نومته الابدية، فالانفجار دفع بالاخشاب والزجاج والركام عليه فاصيب فى قلبه الصغير وتوفى على الفور، لم يتألم طفلها على الاطلاق بل ربما لم يعلم ما اصابه، هذا الأمر كان يهدئ بالها قليلا بان انطونى الجميل لم يتألم بل رحل بهدوء.

عانت آمال كثيرا لتربية أبنها.. قررت أن تبقى فى المنزل بعد أن ولدت ابنها رغم معارضة اهلها بأن تظل معهم بدلا من أن تكون وحيدة طوال الوقت