الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مشاهدات من انفجار مرفأ بيروت بيروتشيما المشاهدة الرابعة

المُمرضة

كارلا فتاة جميلة أنعم عليها الرب بجمال الوجه والقلب، مرحة معطائة لأقصى حدود، كانت تعمل ممرضة بأحد مستشفيات بيروت بقسم الأطفال، كانت محبوبة من الجميع، من الطاقم الطبى من أطباء وممرضين وعمال وأيضا من الأهالى الذين يتوافدون على قسمها، وكان لافتا الطريقة التى تتعامل بها مع الأطفال والتى كانت تتميز عن غيرها بالحنان على الاطفال المرضى أو حديثى الولادة حتى يخيل لمن يراها بأنها هى الأم الحقيقية للطفل الذى بين يديها.



عند الساعة السادسة من مساء الرابع من شهر أغسطس أنهت كارلا عملها وتوجهت إلى غرفة الممرضات لتبديل ثيابها للقاء بعض الصديقات لتناول العشاء والسهر لأن اليوم التالى كان يوم إجازتها وقد عودت نفسها أن ترتاح من العمل أسبوعيا بهذه الطريقة، دخلت الغرفة فصادفت إحدى زميلاتها فتناولت أطراف الحديث معها لبضع دقائق وبعدها بلحظات اهتز المستشفى بأكمله بفعل الانفجار، فسقطت عليها خزانة الألبسة لكن العناية الإلهية أنقذتها فحط طرف الخزانة على طاولة صغيرة مقابلها فانحشرت تحت الخزانة والتى كانت حامية لها فى نفس الوقت من الركام الذى نزل من السقف، فاللمبات سقطت ومعها السقف المستعار ولولا وقوعها تحت الخزانة لكانت قد تعرضت لإصابات جسيمة جدا، مرت دقائق طويلة قبل أن تستطيع الخروج من تحت الخزانة وأول شيء قامت به التفتيش عن زميلتها التى كانت معها فى الغرفة، فوجدتها مغمى عليها تحت الركام فقامت بسحبها ومحاولة انعاشها وجرتها خارج الغرفة فصادفت احد الممرضين الذى حملها وجرى بها لتلقى العلاج.

نظرت كارلا حولها فوجدت غابة من الركام والحطام والأسلاك المتدلية من السقف، اجبرت نفسها على التركيز والعودة لرشدها، وأول ما خطر ببالها غرفة حضانة الاطفال الحديثى الولادة فتوجهت اليها مباشرة لتجد ثلاثة اطفال يصرخون فحملت الثلاثة معا وبدأت بشق طريقها إلى خارج المبنى المدمر، المصاعد بالطبع كانت قد تعطلت وكان طريقها طويلا من الطابق الخامس حتى الارضي، خلال نزولها شاهدت ما لم تكن تحلم بان تراه، دمار كامل، صراخ، غبار، انين الجرحى، وحركة لا تهدأ من فريق عمل المستشفى لانقاذ الجرحى، استغرقت رحلتها أكثر من عشرين دقيقة بسبب حرصها على الا يتعرض الاطفال بين يديها لاى اذى، وكانت تضمهم إلى صدرها بقوة شديدة لخوفها عليهم، وفى لحظة خافت بأن تقوم بأذيتهم بشبب ضمها الشديد فارخت يديها بعض الشيء، إلى وصلت الدور الأرضى وكان المشهد شبيها لمشاهد الأفلام الهوليودية التى تدمنها بشدة، فصالة الاسقبال والمدخل الخارجى تحولا إلى غرفة طوارئ لإسعاف المصابين، مسعفين وممرضين وأطباء يتنقلون بين الجرحى، هذا ينادى على أحد الاشخاص ليطمئن عليه وآخر مصاب ينادى لإسعافه، لم تكن تدرى اين ستذهب بالاطفال.

خرجت من بوابة المستشفى حيث كان المنظر ابشع من الداخل، فعشرات المصابين تم الاتيان بهم من المنطقة المحيطة بالمستشفى، الارصفة تحولت إلى سرائر للمصابين واللون الاحمر طغى على المشهد، على يمينها رأت مشهدا لم يكن يخطر على بالها أن تراه يوما، فالظلام بدأ بالتسلل إلى المنطقة ولا يوجد أى إنارة بسبب انقطاع الكهرباء وتوقف المولدات عن العمل، وكان البديل بفلاشات الضوء من الموبايلات حيث تجمع عدد من الاشخاص حول احد الاطباء الذى يقوم بخياطة جرح احد المصابين باصابة بالغة، نطرت إلى الناحية الأخرى فشاهدت سيدة تبكى قرب إحدى الجثث، وأخرى تصرخ لإسعافها.

كان المشهد سرياليا بامتياز، حطام وركام ورائحة الموت والدماء والحرائق تملئ المكان، لكن صوت الأطفال بين يديها كان يعيدها للواقع، وما هى إلا لحظات سمعت إحدى السيدات تصرخ بأن طفلها لا يزال فى الطابق الخامس وتريد الذهاب إليه لإنقاذه، فتوجهت نحوها فعرفتها وكانت والدة أحد الاطفال الثلاثة الذين حملتهم، كانت الأم فى غرفتها عندما وقع الانفجار وأصيبت بجرح برأسها ونقلت سريعا إلى الدور الارضى من قبل احد الممرضين لاسعافها، وعندما رات كارلا ورات طفلها جن جنونها فلم تصدق ان ابنها الاول بخير بين يدى ملاك حقيقي، فتوجهت نحو كارلا وقبلت قدميها واخذت طفلها بين يديها.

خف الحمل على كارلا قليلا لكن تبقى طفلان بين يديها، وبعد عملية بحث لساعة تقريبا استطاعت الوصول إلى والد الطفل الثانى الذى كان قد صعد إلى الدور الخامس ولم يجد طفله وبدأ بالبحث بعد أن قال له أحد الاشخاص أن ممرضة شوهدت تحمل بعض الاطفال وتوجهت بهم إلى الخارج، كانت زوجته فى الخارج ايضا تجلس على الارض كادت تطير عن الارض رغم آلام الولادة القيصيرية فضمت طفلها وهى تمتم بكلمات الشكر لكارلا التى ابتسمت لها لتهدئتها، وتركتها لتفتش عن اهل الطفل الثالث الذى لا يزال معها، فدارت وفتشت بين المصابين والاهالى الذين اجتمعوا المنطقة ولم تجد أهله، هى كانت تعلم من هم إنها حفظت وجودهم من اليوم الاول لوصولهم إلى المستشفى، كانا زوجين فى منتصف العشرينات، كان الحب والعشق واضحا بينهما، وكانا ينتظران بفارغ الصبر مجيئ ثمرة حبهما، واستغربت كيف لم تجدهما او على الاقل الزوج كون الزوجة كانت تعانى من بعض مضاعفات بعد الولادة وربما تكون تتلقى العلاج فى اى مكان.

قاربت الساعة منتصف الليل وكانت الاوضاع عند مدخل المستشفى تزداد جنونا، وعدد المصابين يتزايد ومعه عدد الباحثين عن اهلهم واقاربهم واحبائهم وكانت كارلا لا تزال تضم الطفل المتبقى بين يديها، فقررت الذهاب إلى المنزل وترك الطفل مع والدتها لتعتنى به وتطعمه خاصة وان شقيتها كانت قد وضعت طفلها الثانى ولا تزال فى فترة النقاهة التى قررت ان تقضيها فى منزل الوالدين، وصلت كارلا ووجها ملطخ بالاسود والاحمر فتحت والدتها الباب لها بعد طرقها المتكرر خافت من شكلها وهيئتها، حاولت الوالدة حمل الطفل لكن كارلا تمسكت به لا شعوريا ولم تتركه الا بعد ان صرخت الوالدة «اتركى الولد».

دقائق قليلة مرت ثقيلة جدا حتى تكلمت كارلا اثناء شربها للمياه، فشرحت لهم كيف نقلت الاطفال ولم تجد الطفل الذى اتت به، ثم قامت فجاة وقبلت والدتها وشقيقتها وقالت لهن انها عائدة إلى المستشفى لتقديم المساعدة والبحث عن اهل الطفل، وعادت فعلا إلا أنها لم تجد الاهل، وقضت ليلتها حتى الصباح بمساعدة الاطباء اثناء علاجهم للجرحى، إلا أنها علمت ان بعض المرضى الذين كانوا بالمستشفى تم نقلهم إلى مستشفى اخر، فقررت التوجه اليه لعلها تجد اهل الطفل.

لم تطل رحلة بحث كارلا عن اهل الطفل، فكانوا فى المستشفى الذى ذهبت اليه الأب يعانى من بعض الجراح التى اصيب بها بسبب الانفجار والأم تعانى من مضاعفات الولادة، لكن الأب كان واعيا فتوجهت اليه بمساعدة إحدى الممرضات التى عرفت منها بان زوجين يبكيان على طفلهما الذى تركاه مكرهين فى غرفة الحضانات، توجهت كارلا نحو الاب فبالغته بأن طفله بخير وهو معها فتبدلت أحواله وظهر النشاط عليه وركض نحو زوجته ليخبرها، واتفقت معه كارلا بان يترك الطفل معها لأيام حتى يتعايفان وكتبت له عنوان بيت العائلة ليذهب وقت ما يشاء لرؤية او استلام الطفل.

وما هى إلا أيام قليلة حتى طرق باب منزل اهل كارلا، فتحت هى الباب فرات الزوج ومعه سيدة عرفت على الفور بانها الام بسبب اللهفة البادية على وجهها ونظراتها، فابتسمت ودعتهما للدخول، وطلبت من والدتها ان تاتى بالطفل وبعد لحظات مبكية وموجعة وفرحة فى نفس الوقت، توجهت الام وهى تحمل الطفلة وموجهة الطلام لكارلا، هل تقبلين بان تكونى عرابة ابنتنا الاولى كارلا؟

بكت كارلا الكبيرة وهى تحضن كارلا الصغيرة بين يديها، فالرابط بينهما سيكون قويا طوال السنوات القادمة فكونها العرابة سيتيح لها رؤية الطفلة باى وقت، وودعت كارلا الطفلة واهلها والدموع تملئ عينيها من فرح لقاء الطفلة باهلها وحزنا على ما عانته هى والطفلة خلال الايام الماضية.  

بكت كارلا الكبيرة وهى تحضن كارلا الصغيرة بين يديها.. فالرابط بينهما سيكون قويا طوال السنوات القادمة فكونها العرابة سيتيح لها رؤية الطفلة بأى وقت