الأحد 26 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مشاهدات من انفجار مرفأ بيروت بيروتشيما المشاهدة الخامسة

الأصم

فى الساعة الخامسة والنصف مساء نظر شادى إلى الساعة المعلقة على الحائط، وقام وخرج من شقته الواقعة فى حى الجميزة بقلب بيروت، كان يقوم يوميا بهذه النزهة ليمتع نظره بغروب الشمس على الرصيف المقابل للمرفأ، كان مواظبا على هذه النزهة اليومية برفقة فنجان القهوة حتى اصبح الأمر بالنسبة له عادة يومية لا يستطيع الابتعاد عنها، ربما اعاقته الناتجة عن الحرب والتى ادت إلى فقدانه السمع بشكل كلى دافعا قويا للتمتع بالنظر إلى الشمس وهى تغلق عينيها يوميا، روحه مرحة يجبر اصدقاءه على تعلم لغة الاشارة أو حمل لوح او ورقة يكتبون ما يريدون التوجه له من كلمات، علما أنه كان بارعا جدا بقراءة لغة الشفاه عند توجيه الحديث له لكنه كان يسر بتعذيب من حوله بطريقة التواصل ويتصرف وكأنه لا يفهم لغة الشفاة لا لغرض ما بل لمجرد المشاكسة.



شادى كان يعيش حياته بهدوء تام، يسكن وحده بشقته بأحد مبانى شارع الجميزة ببيروت، رفض الهجرة إلى كندا مع والديه وشقيقته بسبب عشقه لهذه المدينة الجميلة، بيروت، كان شديد التعلق بها يعشق أهلها وطرقاتها ومحلاتها وأماكن سهرها، عندما قرر أهله الهجرة جرب الانتقال إلى كندا معهم وبقى معهم هناك ثلاثة اشهر عانى خلالها من المرض شاعرا بالأعياء بشكل مستمر مع صداع لم يكن يفارقه، تم اخضاعه لجميع انواع الفحوصات الطبية والمخبرية لكن كل النتائج كانت طبيعية، عندها تأكد اهله بان السبب ابتعاده عن مدينته الحبيبة ووافقهم بالرأى الطبيب المعالج الذى اكد ان السبب فى مرضه نفسى وليس شيئا آخر، فوافق الاب مجبرا على عودته، وفور ابلاغه بالأمر تحسنت حالته الصحية ودبت فيه الروح وما هى الا ايام حتى عاد إلى حيه الذى تربى فيه والشقة التى شهدت على ايام الشقاوة البريئة مع شقيقته، وقتها كان صوته لا يملأ الشقة فقط بل الشارع بأكمله، وكان دائم المعارك مع اهله وجيرانه بسبب صوت الموسيقى التى كان يعشق سماعها بصوت عال، فهو لم يولد اصما بل تعرض فى العاشرة من عمره للصمم بعد تعرضه لانفجار عبوة ناسفة فى احد شوارع بيروت ما ادى إلى اصابته بجروح ومضاعفات صحية ادت إلى فقدانه حاسة السمع بشكل كلى بعد ضرر كبير اصاب بعض الاعضاء الداخلية لاذنيه، الامر كان بالغ الصعوبة على الجميع فى العائلة لكنه تخطى الامر بإصراره على تعلم لغة الاشارة وقراءة حركة الشفاة وهو ما ساعده على اكمال الدراسة بشكل طبيعى إلى ان تخرج من الجامعة متخصصا بالتاريخ وكانت اطروحة الدكتوراه عن شوارع بيروت القديمة خصوصا المنطقة التى يعيش بها، والتى تضم عدد كبير من المنازل الاثرية والتاريخية التى تعود لعصور مختلفة.

خلال وقوفه على الرصيف حاملا كوب القهوة شاهد شادى دخانا أبيض يتصاعد من أحد مستودعات المرفأ، كان الأمر مريبا بعض الشيء بالنسبة له وظن ان الأمر سينتهى على ما يرام عندما شاهد سيارة الاطفاء تصل إلى المكان لمعالجة الأمر، لكن ما هى إلا دقائق قليلة حتى كثر الدخان وتبدل اللون الابيض إلى الرمادى ثم إلى البرتقالى ثم الأحمر، حتى دوى انفجار هائل فانبطح أرضا من الخوف وما هى إلا ثوانى حتى دوى الانفجار الكبير الذى دفعه لمسافة أمتار من المكان الذى كان يقف فيه، لم يعلم ما يجرى فهو لم يسمع اصوات الانفجارات بل قدر حصولها بعد مشاهدته لألسنة اللهب وتطاير الحطام وارتفاع الدخان بشكل كبير وسريع جدا بشكل ثمرة الفطر، قذفه ضغط الانفجار ليلتصق بإحدى السيارات أحس بالدوخة وأحس بالدماء تسيل على وجهه بسبب الزجاج الذى تطاير من الأبنية والسيارات وأصابه، بدأ يتحسس جسده ليرى أين أصيب، لكن لم يجد شيئا باستثناء الخدوش فى وجهه وراسه، حاول الوقوف لكنه ترنح واحتاج بعض الوقت ليثبت قدميه، كانت المنطقة حوله تبدو وكأنها تعرضت للدمار الشامل، ورغم عدم سماعه للأصوات لكنه أحس بها، أحس بصراخ المصابين وأصوات سيارات الاسعاف وابواق السيارات التى تحاول المرور لنقل المصابين، جال بنظره حول المنطقة فلم يتعرف إليها على الاطلاق، قرر الذهاب إلى شارعه فوصله بصعوبة، فالشوارع كانت مقفلة تماما بالركام ورغم وقوفه امام موقع منزله الا انه لم يجده، فالمنزل كان قد تهدم كليا، لم يستطع هذا المنزل الذى بنى منذ عشرات السنين ان يصمد امام الانفجار فتفككت حجارته وانهارت حتى تحول المنزل إلى كومة كبيرة دافنة تحتها ذكريات اهله.

جلس جنب الركام وتناول هاتفه وارسل رسالة إلى اهله فى كندا يشرح لهم ما جرى وليطمئنهم بأنه بخير، وبمجرد ارساله الرسالة حاول ان يتصل بمكالمة فيديو لكن الاتصال كان ضعيفا جدا وحاول العديد من المرات ففشل، وتوالت الرسائل بينه وبين اهله الذين كانوا يتابعون ما يجرى عبر شاشات الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، كانوا خائفين عليه جدا لعلمهم بطقوسه التى يقوم بها بالقرب من المرفأ والتى يتزامن وقتها مع توقيت الانفجار، وبعد فترة استطاع الاتصال باهله بالفيديو وشاهدوه واطمئنوا فارسل لهم القبلات وقال لهم بانه ذاهب إلى المستشفى لمعالجة الجروح البسيطة التى اصيب بها.

بدلا من الذهاب إلى المستشفى استوقف شادى احدى سيارات الاسعاف التى كانت فى المنطقة وتلقى العلاج السريع ولم يكن يحتاج للغرز، وعاد إلى حيه وقابل العديد من جيرانه واصدقائه الذين كانوا لا يزالون واقعين تحت هول الصدمة وغالبيتهم كانوا قد اصيبوا بجروح جراء تطاير الشظايا وبقايا الزجاج، فساعد بعمليات نقل المصابين إلى لمستشفيات وفح الثغرات بين الركام للوصول إلى العالقين تحت الركان وداخل المنازل، وبقى على هذه الحالة حتى صباح اليوم التالى حيث تكشفت الكارثة جيدا، كانت رائحة الموت والدمار تلف المنطقة، هذه المنطقة التى مصدرا للفرح تحولت إلى رمز للكابة، عمليات الانقاذ لم تتوقف فالعديد من الاشخاص كانوا فى عداد المفقودين، بعضهم مفقود فعلا وبعضهم كان قد نقل إلى احدى المستشفيات ولم يعرف مكانهم، لكن رغم كل هذا السواد ظهر بريق من البياض والامل، فالعشرات من الشبان والشابات من جميع مناطق لبنان بدؤوا بالتوافد إلى المنطقة لمساعدة اهلها، بعضهم يرفع الركام ليفتح الطرقات وقسم اتى بما يمكن حمله من أكل ومياه لتوزيعه على المتضررين، كان مشهدا سرياليا بامتياز واس وكان الحياة بعثت من تحت الانقاض فعلا. تحولت المنطقة خلال السعات التالية إلى ورشة عمل كبيرة، أصبحت الارصفة مراكز وغرف عمليات لعمليات التنظيف وتقديم المساعدات، والعديد من الفرق الاسعافية التابعة لمنظمات أهلية قدمت خدماتها المجانية من إسعافات اولية وتنظيف الجروح وغيرها من الامور البسيطة التى من الممكن القيام بها خارج المستشفيات لأن مستشفيات المنطقة كانت خارج الخدمة تماما بعد تعرضها للدمار بفعل ما جرى.

اما هو فعاد إلى انقاض منزله فصور بعض الصور وارسلها لاهله فى كندا الذين تألموا لمشاهدة بيت العائلة وقد تحول إلى كومة من الحجارة والاخشاب، وحاول نبش الركام وطلب من احدى الجرافات معاونته بازحة جزء منه قليلا إلى ان وصل لاحدى الغرف او ما تبقى منها، فوجد اوراقه الثبوتية وبعض المال والاهم كان عثوره على ساعة الحائط المفضلة لديه والتى اشتراها بعد إصابته بالصم وكانت قد توقفت عند الساعة السادسة وثمانية دقائق بالضبط وهو التوقيت الذى حصل فيه الانفجار، فقام على الفور بتصويرها وارسل الصورة لوالده الذى بادر بالطلب منه ان ياتى إلى كندا فورا وفهم شادى الكلام لاتقانه لغة الشفاه فهز راسه رافضا ووضع الموبايل امامه وسحب جواز سفره من حقيبته ومزقه أمام والده وقال له انا ساظل هنا إلى أن اعيد بناء البيت، بيتى وبيتك وبين العائلة فارجوك لا تلح علي، انصدم الاب من ردة فعل ابنه وهز بارسه طالبا منه الانتباه لنفسه ولصحته والاتصال بهم كل يوم وكل الوقت.