الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ذا النون المصرى(8)







 
 
 
 
دعا للمتعلمين باجتناب دار الظالمين.. والبعد عن الجاهلين
 
 
إن إسلام القلب لله أساس المقامات وذروته، وهو المعنى الحقيقى لكلمة «إسلام».
ومن هنا كانت مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعد لها مناجاة.
ولقد تابع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إسلام القلب لله، وتابعوه فى مناجاته، واختلفت مناجاتهم باختلاف منازلهم.
وإن الصوفية بل وغير الصوفية يعجبون - كل العجب - بمناجاة ابن عطاء الله السكندري، كل العجب - بمناجاة ابن عطاء الله السكندري، ويعجبون - كل العجب مناجاتة أبى الحسن الشاذلى متمثلة فى أحزابه وأدعيته.
ونحن هنا نذكر مجموعة من مناجاة ذى النون المصري، إنها تمثل درجته الروحية السامية، وسيرى القارئ بنفسه مدى السمو الذى بلغه ذو النون.
يروى أبو عثمان سعيد بن الحكم قال: سمعت ذا النون يقول: «إلهي.. إن كان صغر فى جنب طاعتك عملي، فقد كبر فى جنب رجائك أملي».
إلهي.. كيف انقلب من عندك محرومًا، وقد كان حسن ظنى بك منوطًا».
«إلهى .. فلا تبطل صدق رجائى لك بين الآدميين».
«إلهي.. سمع العابدون بذكرك فخضعوا، وسمع المذنبون بحسن عفوك فطمعوا».
«إلهي.. إن كانت أسقطتنى الخطايا من مكارم لطفك، فقد آنسنى اليقين إلى المكارم عطفك».
«إلهي.. إن امتنى الغفلة من الاستعداد للقائك فقد نبهتنى المعرفة لكرم آلائك».
«إلهي.. إن دعانى إلى النار أليم عقابك فقد دعانى إلى الجنة جزيل ثوابك».
ويقول:
أموت وما ما تت إليك صبابتي
ولا فضيت من صدق حبك أو طاري
مناى المنى كل المنى أنت لى منى
وأنت الغنى كل الغنى عند افتقاري
وانت مدى سؤلى وغاية رغبتي
وموضع آمالى ومكنون إضماري
***
تحمل قلبى فيك ما لا أبثه
وإن طال سقمى فيك أو طال اضطراري
وبين ضلوعى منك ما لك قد بدا
ولم يبد بادية لأهل ولا جار
ولى منك فى الاحشاء داء مخامر
فقد هدمنى الركن وانبت اسراري
***
ألست دليل الركب إن هم تحيروا
ومنقذ من أشفى على جرف هار
أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن
من النور فى أيديهم عشر معشار
فنلنى بعفو منك أحظى بقربه
أغثنى بيسر منك يطرد إعساري
 
حلاوة المناجاة
وعن عبد القدوس بن عبد الرحمن الشامي، قال: سمعت أبا الفيض ذا النون يقول:
« إلهي.. من ذا الذى ذاق  طعم حلاوة مناجاتك. فألهاه شيء عن طاعتك ومرضاتك؟
أم من ذا الذى ضمنت له النصر فى دنياه وآخرته، فاستنصر بمن هو مثله فى عجزه وفاقته؟
أم من ذا الذى تكفلت له بالرزق فى سقمه وصحته. فاسترزق غيرك بمعصيتك فى طاعته؟
أم من ذا الذى عرفته آثامه، فلم يحتمل خوفًا منك مؤونة فطامه؟..
أم من ذا الذي أطلعته علي ما لديك.. ثم انقطع إليك من كرامته، فأعرض عنك صفحًا إخلادًا إلي الدعة في طلب راحته؟
أم من ذا الذى عر دنياه وآخرته، فآثر الفانى على الباقي، لحمقه وجهالته؟
أم من ذا الذي شرب الصافي من كأس محبتك، فلم يستبشر بقوارع محنتك؟..
أم من ذا الذى عرف حسن اختيارك، وقدرتك على نفعه وضره. فلم يكتف بك عن علم غيرك به، ولم يستغن بك عن قدرة عاجز مثله؟!
وعن سعيد بن الحكم القنفذي، قال: سمعت ذا النون يقول:
«كيف لا أبتهج بك سرورًا، وقد كنت أكدح ببابك حتى جعلتنى من أهل التوحيد».
وعن عبد القدوس بن عبد الرحمن الشامي، قال: سمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم المصرى يقول:
«إلهي.. وسيلتى إليك نعمك علي. وشفيعى إليك إحسانك إلي».
إلهي.. أدعوك فى الملأ (الملأ) كما تدعى الأرباب، وأدعوك فى الخلا (الخلاء) كما تدعى الأحباب.. أقول فى الملا: يا إلهي.. وأقول فى الخلا: يا حبيبي.
أرغب إليك. وأشهد لك بالربوبية.. مقرًا بانك ربي، وإليك مردي.
ابتدأتنى برحمتك من قبل أن أكون شيئًا مذكورًا وخلقتنى من تراب ثم أسكنتنى الأصلاب، ونقلتنى إلى الأرحام..
أنشأت  خلقى من منى يمني،ثم أسكنتنى فى ظلمات ثلاث، بين دم ولحم ملتاث، وكونتنى فى غير صورة الإناث.
ثم نشرتنى إلى الدنيا تامًا سويًا، وحفظتنى فى المهد طفلًا صغيرًا صبيًا، ورزقتنى من الغذاء لبناً مريًا، وكلفتنى حجور الأمهات، واسكنت قلوبهن رقة لى وشفقة علي، وربيتنى بأحسن تربية، ودبرتنى بأحسن تدبير، وكلأتنى من طوارق الجن، وسلمتنى من شياطين الإنس، وصنتنى من زيادة فى بدنى تشنني، ومن نقص فيه يعيبني، فتباركت ربى وتعاليت يارحيم.
فلما استهللت بالكلام أتممت على صوابغ الإنعام، وأنبتني، زائدًا فى كل عام، فتعاليت  يا ذا الجلال والإكرام.
حتى إذا ملكتنى شأني، وشددت أركاني، أكملت لى عقلي، ورفعت حجاب الغفلة عن قلبي، وألهمتنى النظر فى عجيب صنائعك، وبدائع عجائبك، وأوضحت لى حجتك، ودللتنى على نفسك، وعرفتنى ما جاءت به رسلك، ورزقتنى من أنواع المعاش وصنوف الرياش بمنك العظيم، وإحسانك القديم، وجعلتنى سويًا.
ثم لم ترض لى بنعمة واحدة دون أن أتممت على جميع النعم، وصرفت عنى كل بلوي، وأعلمتنى الفجور لاجتنبه، والتقوى لأقترفها، وأرشدتنى إلى ما يقربنى إليك زلفي، فإن دعوتك أجبتني، وإن سألتك أعطيتني، وإن حمدتك شكرتني، وإن شكرتك زدتني.
إلهي.. فأى نعمك أحصى عددًا؟
.. وأى عطائك أقوم بشكره؟
.. كم أسبغت على النعماء؟
.. وكم صرفت عنى من الضراء؟
إلهي.. أشهد لك بما شهد لك باطنى وظاهرى وأركاني.
إلهي.. انى لا أطيق إحصاء نعمك، فكيف أطيق شكرك عليها، وقد قلت وقولك الحق:
«وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»
أم كيف  يستغرق شكرى نعمك وشكرك من أعظم النعم عندي.
وأنت المنعم به علي؟.. كما قلت سيدي: «وما بكم من نعمة فمن الله».. وقد صدقت قولك؟
إلهى وسيدي.. بلغت رسلك بما أنزلت إليهم من وحيك، غير أنى أقول بجهدي.. ومنتهى علمي، ومجهود وسعي، ومبلغ طاقتي:
الحمد لله على جميع إحسانه. حمدًا يعدل حمد الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، حتى تقيم قلبى بين ضياء معرفتك، وتذيقنى طعم محبتك، وتبرد بالرضا منك فؤادى وجميع أحوالي، حتى لا أختار غير ما تختاره، وتجعل لى مقاماً بين مقامات أهل ولايتك، ومضطربًا فسيحًا فى ميدان طاعتك».
إلهي.. كيف استرزق من لا يرزقنى إلا من فضلك؟ أم كيف أسخطك فى رضا من لا يقدر على ضرى إلا بتمكينك؟!
فيا من أسأله إيناسًا به، وإيحاشاً من خلقه.. ويا من إليه التجائى فى شدتى ورجائي.. ارحم غربتي، وهب لى من المعرفة ما أزداد به يقينًا، ولا تكلنى إلى نفسى الإمارة بالسوء طرفة عين».
وحدثنا سعيد بن الحكم، قال: سمعت ذا النون يقول:
خرجت فى طلب المناجاة فإذا أنا بصوت، فعدلت إليه، فإذا أنا برجل قد غاص فى بحر الوله، وخرج على ساحل الكمة، وهو يقول فى دعائه:
«أنت تعلم أنى لأعلم أن الاستغفار مع الإصرار  لؤم، وأن تركى الاستغفار مع معرفتى بسعة رحمتك لعجز.
إلهي. أنت الذى خصصت خصائصك بخالص الإخلاص، وأنت الذى سلمت قلوب العارفين من اعتراض الوسواس، وأنت الذى آنست الآنسين من أوليائك، وأعطيتم كفاية رعاية المتوكلين عليك، تكلؤهم فى مضاجعهم وتطلع على سرائرهم، وسرى عندك مكشوف وأنا إليك ملهوف».
قال: ثم سكت فلم أسمع له صوتًا.
ثم سمعته يقول:
«لك  الحمد يا ذا المن والطول، والآلاء والسعة، إليك توجهنا،وبفنائك أنخنا، ولمعروفك تعرضنا، وبقربك نزلنا، يا حبيب التائبين، ويا سرور العابدين، ويا أنيس المنفردين. ويا حرز اللاجئين، ويا ظهر المنقطعين، ويا من حبب إليه قلوب العارفين، وبه آنست أفئدة الصديقين، وعليه عكفت رهبة الخائفين.
يا من أذاق قلوب العابدين لذيذ الحمد، وحلاوة الانقطاع إليه.
يا من يقبل من تاب، ويعفو عمن أناب، ويدعو المولين كرمًا، ويرفع المقبلين إليه تفضيلًا.
يا من يتأنى على الخاطئين ويحلم عن الجاهلين.
يا من حل عقدة الرغبة من قلوب أوليائه، ومحا شهوة الدنيا عن فكر قلوب خاصته وأهل محبته، ومنحهم منازل القرب والولاية.
ويا من لا يضيع مطيعًا، ولا ينسى حبيبًا.
يا من منح بالنوال، ويا من جاد بالاتصال، يا ذا الذى استدرك بالتوبة ذنوبنا، وكشف بالرحمة غمومنا، وصفح عن جرمنا بعد جهلنا، وأحسن إلينا بعد إساءتنا، يا آنس وحشتنا، ويا طبيب سقمنا.
يا غياث من أسقط بيده، وتمكن حبل المعاصى من عنقه، وفر حذر الحياء عن وجهه، هب خدودنا للتراب بين يديك، يا خير من قدر، وأرأف من رحم وعفا».
وكان ذو النون يقول فى مناجاته:
«يا واهب المواهب، ومجزل الرغائب، أعوذ بك من النزول بعد الوصول، ومن الكدر بعد الصفاء، ومن الوحشة بعد الأنس، ومن طائف الحسرة لعارض الفترة، ومن تغيير الرضا».
وروى ابن باكويه عن يوسف بن الحسين قال: كان من مناجاة ذى النون أنه كثيرًا مان كان يقول:
«اللهم بحياتك الدائمة القائمة على كل نفس بما كسبت، أكس وجهى حياء، وارزقنى طاعة أطعك بها فى الدنيا».
وكان يقول:
«لئن مددت يدى إليك داعيًا.. لطالما كفيتنى ساهيًا، كيف يشقى بالدعاء من كفى قبل الدعاء؟
اللهم حسبى من سؤالى علمك بحالي».
وقال: سمعت ذا النون يقول:
«لئن مددت يدى إليك داعيًا، لطالما كفيتنى ساهيًا.
.. أقطع منك رجائى بما عملت يداي؟
.. حسبى من سؤالى علمك بحالي».
وقال:
«إلهي.. إن الشيطان لك عدو. ولم تغظه بشيء أنكى لم تجمع من عفوك عنا، فاعف عنا».
وعن عبد الله بن محمد بن ميمون، قال: سمعت ذا النون يقول فى مناجاته:
«سيدى زمان مكيد وبلاء وجهد جهيد، وأمل بعيد، وشيطان مريد. وعيش كدود، وعدو حسود. وخلف موجود، ووفاق مفقود.
فكيف النجاة إلا بعصمتك أيها المعبود».
وعن محمد بن عبد الملك، قال: سمعت ذا النون يقول:
«اللهم أجعلنا من الذين استنبطوا الحذر، وقرأوا صحف الخطايا، وأكثروا (من التفكير فى ) دواوين الذنوب، فأورثهم الفكرة الصالحة فى المنقلب».
وعن أحمد بن على البغداي، قال: كنت عندى ذى النون وعنده جماعة من المتعلمين، فقالوا: ـ ادع لنا يا أبا الفيض؟
فقال لهم:
«جعلكم الله من الذين سلكوا خلاف دار الظالمين، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين، واجتنبوا ثمار الكد، فورثهم حسن المآب، فطعوا الأحزان، ووصلوا إلى الجنان، وأمنوا من البوار، فاستقرت بهم الدار، بقرب الملك الجبار».