الخميس 30 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
أصحـاب ولا أعـز... تجربـة سينمائية كاشفـة عـن وصـاية الرجعييـن

أصحـاب ولا أعـز... تجربـة سينمائية كاشفـة عـن وصـاية الرجعييـن

يتعرض فيلم «أصحاب ولا أعز» الذى عرض لأول مرة منذ أيام لهجمة شرسة من التيارات الرجعية، وفى تقديرنا أن هذا موقف كاشف عن عدد من الأشياء والظواهر، أولًا أننا هنا أمام فيلم ذي مستوى فنى جيد وفيه قصة وفكرة إنسانية وحالة من الاجتهاد السينمائى على أكثر من مستوى، وفيه إبداع حقيقى ومحاولة لأن تكون السينما العربية ذات أبعاد مختلفة تتجاوز المحلية وترتهن بما هو إنسانى، والحقيقة أن الفيلم كاشف عن تراكمات الرجعية الدينية ونتاج ما غرست الجماعات الإرهابية فى المجتمعات العربية وليس فى المجتمع المصرى فقط، بل إن المجتمع المصرى يكاد يكون هو الأقل بالمقارنة بالمجتمعات الأخرى، وإذا كان الرجعيون لدينا فى مصر صاخبين وصوتهم مرتفع ويحبون المشاركة والتفاعل بوصفهم جزءًا من نسيج وطبيعة الشعب المصرى عمومًا فإن مجتمعات أخرى أكثر تطرفًا وأشد رجعية ربما تعزف تمامًا عن الخوض فى هذه الأمور لأنها ترفض الفن بشكل عام وتكره الفنانين، ولا يمكن أن ننسى أن مصر تتشكل هويتها فى جزء كبير منها بالنتاج الفنى والإبداع السينمائى وتمثل السينما جزءًا مهمًا من هيمنتها وتأثيرها فى محيطها العربى والعالمى.



إذن ما سبب هذه الهجمة وما خطورتها؟ أسباب هذه الهجمة عديدة، أولًا أن التيارات الرجعية تخشى بالأساس الفن وقوته فى المجتمع وتخشى تأثيره لأن الفن بالأساس له طاقات وأدوار تنويرية كبيرة ويعمل على تحرير العقل ويقدم مضمونًا حقيقيًا ويجعل الإنسان يعتاد على الجمال ويسعى لمزيد منه، وهو كذلك يربط العرب والمصريين بشكل أكبر بالعالم الخارجى ويوسع حدود ارتباطنا بالآخر وبحضاراتهم شرقًا وغربًا ويجعلنا نتجاوز حال الانغلاق على الذات وله فوائد كثيرة معروفة وربما من المسلم بها تمامًا. 

لا ننسى أصلًا أن الرجعية الدينية مارست حربًا على الفن المصرى لسنوات طويلة عبر أكثر من حيلة منها ما يعرف بتوبة الفنانات واشتغال بعض الدعاة عليهم بالوعظ ومحاولة إظهار الفن على أنه نوع من السقوط الأخلاقى وترسيخ تشويه العاملين بالسينما والتمثيل  والتأكيد على أنهم بحاجة للتوبة لأنهم يعيشون دائمًا فى حالة من التردى الأخلاقى والفساد الاجتماعي، ويجب أن يتبرؤوا من أعمالهم، وكلها أمور عملت على إضعاف الفن المصري، وسلبتنا كثيرا من طاقاتنا وخصوصيتنا وحاولت أن تشكك الفن فى نفسه وتضرب العاملين فيه نفسيًا وتصنع حالًا من الاهتزاز والتذبذب، ومن المسلم به أن أى طفرة فنية فى المنطقة وأى نهضة إبداعية للعرب سيكون لمصر فيها السبق والتفوق لما يتوافر لها من عمق تاريخى وخبرات عظيمة وإمكانات بشرية ودراسات، فنحن أول من تعامل مع الإبداع بشكل علمى ووضعنا له الأكاديميات والمؤسسات البحثية وكان لدينا فيه درجات علمية كبيرة بل درسناه لكل دول المنطقة ونقلنا إليهم بعضًا من خبراتنا. فضلًا عن تأثيرنا العميق فيمن حولنا، ومن الجميل مثلًا أن تجد أثر هذا وإشارات صريحة لتأثير الفن المصرى من دراما وسينما فى الرواية العالمية حتى إن بعض دول البحر المتوسط مثل اليونان وقبرص وإيطاليا كانت تتابع الدراما المصرية فى التسعينيات كما نجد فى روايات الروائى الأمريكى الشهير خالد حسينى مثلًا من إشارة عن متابعة البطلة اليونانية للمسلسل المصرى فى التسعينيات، أما ما نجد من إشارات إلى تأثير السينما المصرية فى مجتمعات ودول الخليج والمغرب العربى فحدث ولا حرج لكثرتها، ويمكن أن أشير هنا فقط إلى عشرات الروايات من الذاكرة تتحدث عن تأثير السينما المصرية لروائيين عراقيين وكويتيين وإماراتيين وعمانيين وسوريين ومغربيين، يشيرون إلى أفلام مصرية بالاسم أو لنجوم السينما وكيف أن بعضها صاغ وجدان أبطال هذه الروايات وشكل شخصياتها وصبغ كثيرًا منهم بأفكارها واتجاهاتها، فكانت السينما المصرية تصوغ وجدان الإنسان العربى لفترات طويلة، وهكذا فإن كل مكتسب جديد لصالح الفن من حرية وانطلاق نحو إبداع يمثل قوة إضافية لمصر على نحو خاص، ولا ننسى أن الفن قوة اقتصادية كذلك، ربما لا يتقارب معنا فى الإمكانات غير لبنان مع الفارق فى أشياء أخرى كثيرة لصالح مصر التى بإمكانها أن تفيد من قدرات أى دولة لتصنع خطابها الفنى والسينمائى الخاص، المهم أن يكون إبداعًا له صبغة إنسانية وفيه فكر ويبتعد عن الكيد السياسى والمباشرة وينتصر للقيمة قبل أى شيء آخر، وهذا ما تدعمه مصر بشكل دائم وثابت ومن منطلق إنسانى وقناعات فنية وحداثية راسخة، فنحن دولة رائدة وقائدة تنويرية، ويمكن أن نعتبر ما حدث فى أواخر السبعينيات وطوال الثمانينيات والتسعينيات من دعاوى السينما النظيفة استثناء وبعضها كانت تمثل اعتداء خفيًا ومحاولات لتجريف السينما المصرية ورغبة فى ضربها وقتلها وهو ما كان صعبًا، فربما يلحقها بعض الضعف لكنها لا يمكن أن تموت أبدا لأننا فى الأصل لا نقل عن أى دولة حداثية وعصرية فى العالم كله، بل كثيرًا ما نسبق فى الفن والسينما دولًا أوربية متقدمة ويتجلى فى هذا المجال عمقنا التاريخى والفكرى والفرعونى ووجهنا الحضارى الراسخ من آلاف السنين، إذن من مصلحة الحضارة المصرية والدولة المصرية الراهنة الساعية نحو مزيد من التنوير والحداثة والريادة فى المنطقة والمنطلقة بقوة نحو الجمهورية الجديدة أن يتمتع الفن بكامل الحرية وأن ينطلق نحو آفاق جديدة بعيدًا عن حصار الرجعيين والإرهابيين وصوتهم الزاعق الذى يريد فرض الوصاية والتخويف ويعمد إلي حرمان الجمهورية الجديدة من طاقات الفن بشكل عام ويريد أن يحرم المنطقة من شعاع النور الذى يأتى من الإبداع الفنى والسينما وهى تتلمس طريقها للخروج من متاهة الرجعية الدينية وسيطرة الجماعات الإرهابية فى العقد الأخير بشكل خاص.

من صالح كل إنسان عربى ومصرى أن يدعم الفن الجيد الذى يثير الأفكار ويحرك الراكد منها ويكون محملًا بالفكر وبالجمال الإنساني، وفى تقديرى الخاص أن فيلم «أصحاب ولا أعز» يمثل قيمة جمالية حقيقية ويؤثر فى الناس وفيه متعة للمشاهد، وفيه تمثيل وقصة وإخراج جيد وفيه حوار رائع وفيه كثير من الكوميديا الممزوجة بالمأساة، ولهذا فهو لا يقارن على الإطلاق بفيلم مثل «ريش» الذى حظى بدفاع عظيم وهو لم يكن يستحق، والطريف أن الدفاع عنه لم يكن من منطلق حرية الإبداع فى المطلق ولكن كان لمحاولة ترسيخ هذا الذوق وفرضه على الناس، والعجيب أن كثيرين ممن دافعوا عن فيلم «ريش» اختفت أصواتهم الآن ولم يحاولوا الدفاع عن فيلم «أصحاب ولا أعز» الذى فيه تجربة سينمائية حقيقية بالقياس للراسخ من قوانين السينما وقواعدها وأساسياتها لإنتاج الجمال وصناعة الألفة ومحاولات التجريب فى إطار المستقر من قواعد الفن. فيلم «أصحاب ولا أعز» فيه جرأة لكنها جرأة فى إطار موضوع وإطار قصة وإطار بنية حكائية واضحة ورمزية وكشف عن أنماط إنسانية عديدة وحالات من الضعف والخيانة ولعبة جميلة من خلال خسوف القمر وهى الصورة الحقيقية له بدون انعكاس ضوء الشمس عليه، وكأنه ممثل ورمز مواز للإنسان فى صورته الحقيقية بدون رتوش أو تجميل مصطنع أو إخفاء للقبح، والجميل أن أغلب الأسر لبنانية فى الفيلم والثنائى المصرى وبخاصة دور شريف الذى أداه إياد نصار دال على جدعنة الشخصية المصرية وتحمله لفضيحة صاحبه ومداراته عليه، وهو بالأساس يتعامل مع نماذج إنسانية عامة ويجب ألا نحاول تغليب هذا التمييز للشخصية المصرية، ولكن أقصد أنه فيلم إيجابى على أكثر من مستوى حتى على المستوى السطحى، وبرغم ذلك لم نسمع أصوات المدافعين عن حرية الفن والإبداع وكأنهم تماهوا تماما مع الإسلاميين والتيارات الرجعية التى تعمل فى الخفاء على الفن وتحاول أن توجه إليه عددًا من الضربات. 

الفن الجيد يخلق حالة من المنافسة حتى ولو كانت تنتجه منصات مستقلة أو تعمل من الخارج، المهم أن يكون فنا بحق وأن يكون قادرا على مخاطبة الجماهير بشكل فنى وأن يرتفع بذوقهم فى المقام الأول لأنه ترسيخ لعلاقة الإنسان العربى والمصرى بالفن وهو ما يمكن أن يمهد لتوظيفات أكبر لفن السينما تعمل على مزيد من التنوير والنهضة الفكرية والثقافية والحضارية. فلا بأس حينئذ من هذا النوع من الفن غير المباشر وينطوى على قيمة جمالية حقيقية حتى وإن كان هناك اختلاف فى الرأى حول المضمون أو حول بعض التفاصيل، حتى ولو لمجرد أن يشكل هذا الفن حراكًا نقديًا وفكريًا وحالة من الجدل والصخب، فكل هذا لصالح المجتمع ولصالح الحالة العامة ويعمل على تآكل مساحة الرجعية والتطرف بل يحسن من الحالة المزاجية العامة فى المجتمع.

وقد كان الفن المصرى والسينما المصرية فى العقود الأولى قبل التسعينيات يتحرك فى هامش حرية أوسع وفيه جرأة ومع ذلك كان يتسم بالوطنية والولاء للمجتمع، والفن دائما ما يحدد علاقته بالمجتمع ويحدد مساحة حريته بنفسه من خلال الجدل الذى يقيمه بنفسه مع المجتمع الذى يعيش فيه، أفلام الأسود والأبيض المصرية كانت فى منتهى الجرأة وفيها قبلات وفيها صنعة كبيرة وفيه فكاهة وكوميديا وقدرة على التأثير وفيها أفكار عظيمة وموضوعات فى منتهى الشجاعة وبخاصة مع الأفلام المأخوذة عن إبداع نجيب محفوظ القصصى بل إن بعضها كان حول موضوعات فكرية وفلسفية ووجودية وكانت فى غاية القيمة والجمال وهنا يتحقق فى الفن المسئولية فهو لا يسعى لمزيد من الحرية إلا فى ضوء إحساس عميق بالمسئولية تجاه المجتمع، يمكن أن نقول إن السينما المصرية ذات الرصيد العميق والتاريخى والطابع العالمى صاغت حدودها وحريتها وقوانينها بنفسها وأصرت عليها، ففى ضوء الجماليات وفى ضوء قوة الموضوع وقوة الفكرة تأخذ مساحة جديدة من الحرية وتنزع بجرأة وشجاعة نحو التجريب وهى واثقة الخطوة وهذا ما دأبت عليه لعقود طويلة بما يقترب الآن من قرن من الصخب السينمائى والفنى العميق والعظيم الذى حافظ على روح مصر وحماها وشكل هويتها برغم كل ما كان من محاولات تجريفها والاعتداء على هويتها ومحاولة تزييفها أو جعلها تنحرف عن روحها وأهدافها وريادتها ودورها الإنسانى العميق. 

كل إنسان مصرى محب لبلده يجب أن يدعم الفن الحقيقى غير المدعوم من الجهات الخفية، ويدعم الفن غير المفتعل، وينتصر له ولا يخشاه ولا يخاف منه على القيم، وبخاصة فى هذا السياق العالمى المنفتح الذى أصبح كل شيء فيه متاحا ويمكن أن يشاهده الإنسان العربى فى أى مكان وفى بيته عبر المنصات أو المواقع، ومصر الرائدة فنيا يجب أن ترحب بتوسيع مجال المنافسة وهذا فى النهاية فى صالحنا، فهو ملعب مصر الذى طالما أجادت فيه وكانت ومازالت تصول وتجول، وفوزها فيه مؤكد، والفنان المصرى الحقيقى بالأساس وبخاصة النجوم الكبار أصحاب ضمير وطنى وفنى ونزاهة كبيرة لأنهم يستمدون ضميرهم من الضمير الجمعى للإنسان المصرى ولا يمكن الخوف من هذا الفن على قيم أو أخلاق، بل الخوف من الجماعات المتربصة بالفن، التى تلتف على التيارات المدنية والليبرالية وتستغلهم وتوظفهم بل تسخرهم لموضوعاتها ثم تلتف عليهم وتأكلهم بعد ذلك، وكل هذا لتصنع حالة من الظلام التام التى تجعلها تضم الكثيرين من الحشود والجماهير إلى صفوفها وتكتسب مزيدا من المتطرفين الذين تستغلهم بعد ذلك ضد الدولة وضد المجتمع. ولهذا فإن الانتصار للقيمة والانتصار لهذا الاجتهاد السينمائى أمر منطقى بل حتمى وطبيعي، ومن الطرائف والعجائب أن كثيرا من التيارات الرجعية وأتباع الإخوان انتصروا لفيلم «ريش» لأنه يحمل رسالة كيد سياسى وكان محاولة فاشلة للتشويه، فناصروه برغم أنه يكاد يكون مفرغًا تمامًا من جماليات السينما، وهذه التيارات الرجعية وأتباع الإخوان الإرهابية هم الآن الذين يهاجمون فيلم «أصحاب ولا أعز» بحجة أنه اعتداء على أخلاقيات المجتمع وقيمه وهذا أمر واضح على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يتماشى مع طبيعتهم وذوقهم، فهم بالأساس لا علاقة لهم بفن السينما حتى يستطيعوا تحديد ما الجميل أو القبيح، ولا يناقشون أمر أى فيلم أو يعنيهم إلا من زاويتين الأولى فى حال كان الفيلم له رسالة سياسية والثانية إذا كان الفيلم يساعدهم على أن يتخذوا دور الوصاية الأخلاقية والدينية، أما ما يرتبط بالجمال والإبداع والفن والتنوير والأبعاد الاقتصادية والمنافسة الفنية فلا يعنيهم ولا يفهمون فيه وكل ما فى الأمر أيضا أنهم يجدون فى وسائل التواصل الاجتماعى مجالًا لأن يشكلوا حالة تخصهم وتظاهرة تعبر عنهم وتعلن عن وجودهم ليقولوا كذبًا وادعاء أنهم خطوط الدفاع عن الدين وخطوط الدفاع عن الأخلاق والمجتمع، وهذا كله نوع من الادعاء والتزييف المعتاد منهم منذ عقود بعيدة.