الإمام السجينى فقيه أصولى تولى مشيخة الأزهر وحارب الإهمال
روزاليوسف اليومية
الإمام العلامة الفقيه النبيه شيخ الإسلام، وعمدة الأنام، الشيخ عبدالرءوف بن محمد بن عبدالرحمن بن أحمد السجينى الشافعى الأزهري، تاسع شيوخ الأزهر، وكنيته «أبوالجود» لشدَّة كرمه، وُلد عام 1154هـ - 1741م فى قرية من قُرَى محافظة الغربيَّة، تسمَّى «سجين»؛ ولهذا نسب إليها، هكذا ذكره الجبرتى فى تاريخه، نشأ الإمام «السجيني» فى بيتٍ كله علم وفضل؛ فحفظ القُرآن، وتلقَّى عن أبيه وعن عمِّه الشيخ شمس الدين السجينى العلمَ بالأزهر.
وكان من العلماء المشهورين، كما كان والده أيضًا من العلماء المشهود لهم - فهو فقيه أصولى شافعى - ويظهر أنَّه كما أوضحنا - سليلُ أسرةٍ اشتهرت بالعلم، ويذكُر الجبرتى فى حديثه عن الشيخ «السيواسي» أنَّ العلامة الشيخ محمد السجينى والد الإمام كان إذا مرَّ بحلقة درسه خفض من مشيتِه، ووقف قليلاً، وأنصَتَ لحسن تقديره ثم يقول: «سبحان الفتَّاح العليم»، كما وصَف الجبرتى والد الإمام بأنَّه «الأستاذ العالم العلامة شيخ المشايخ محمد السجينى الشافعي...» إلخ، وقد خلف عمه بعد موته فى تدريس «منهج الطلاب»؛ للأنصاري، وكان من الكتب المقرَّرة فى المذهب الشافعي، وتولَّى شياخةَ رواق الشراقوة بالأزهر قبل أنْ يتولَّى مشيخة الأزهر، فقد سبَقَه من الشافعيَّة: الشيخ الإمام «البرماوي» والإمام «الشبراوي» والإمام «الحفني»، أمَّا السابقون له من المالكيَّة فخمسة هم: الإمام «الخراشي»، الإمام «النشرتي»، والإمام «القليني»، والإمام «محمد شنن»، والإمام «الفيومي».
وبعد أنْ تولَّى مشيخة الأزهر عام 1181هـ - 1767م قادَها بحكمةٍ وشهامة، وسار فيه بقوَّة واقتدار، وقابَل الإهمال بصرامةٍ، وقد اشتهر ذكرُه قبل ولايتِه لمشيخة الأزهر؛ بسبب أحداث كثيرة ذكر الجبرتى بعضًا منها، وهذا يدلُّ على أنَّ للشيخ منزلةً مرموقة عند العامَّة والخاصَّة، وقد ذكرت المصادر التاريخيَّة، أنَّ مدَّة توليته للمشيخة كانت قصيرةً لا تتجاوز السَّنة الواحدة، ومع ذلك فقد كانت له مكانةٌ فى نفوس كلِّ المصريين، حكَّامًا ومحكومين، وهناك عددٌ من المزايا التى أهَّلته لتبوُّء المكانة التى تفرَّد بها بين علماء عصره، ومنها أنَّ أباه محمد بن عبدالرحمن السجيني، كان أحد الصدور المحقِّقين، والوجوه المدقِّقين، وأنَّه كان يحبُّ العلماء ويسمع منهم، ولا جدال فى أنَّ الإمام «السجيني» قد استفاد من هذا الولد واقتبس الكثير من معارفه.
ومن مَزايا الإمام السجينى أيضًا: أنَّه تتلمذَ على يد الإمام الشيخ محمد الحفني، وهو أحد الأئمَّة الذين سبقوه إلى مشيخة الأزهر، والذين اعتلوا أريكتَه زمنًا طويلاً، تقريبًا خمسة وأربعين عامًا، وكان الأزهر فى عهده محلَّ تقدير وتوقير، لا من العلماء والطلاب فحسب، بل من رجالات الحكم فى البلاد وعلى رأسهم على بك الكبير، الذى أراد أنْ يُوجِّه حملةً حربيَّة إلى الوجه القبلي، وكان الشيخ أحد أعضاء حكومته؛ فرفض توجيه هذه الحملة، وأمام إصراره على وجهة نظره لم يجد على بك بُدًّا من النزول على رأيه، وعدم العودة إلى إرسال هذه الحملة مرَّةً أخرى، ولا شَكَّ أنَّ الإمام «السجيني» قد تأثَّر بالإمام «الحفني»، ونسج على منواله فى كثيرٍ من الشئون الماليَّة؛ فقد ذكر «الجبرتي» أنَّه كان حازمًا فى مزاولة شئون منصبه، وقد سبق أنْ ذكر الشيخ «الحفني» بأنَّه كان جوادًا كريمًا، لا ينقطع الناس عن زيارة بيته ليل نهار.
ويبدو أنَّ الإمام «السجيني» قد كان ممَّن أخذوا عنه هذه السُّنَّة، وأنَّه ما سمِّى «بأبى الجود» إلا من أجل ذلك، ومع أنَّ المصادر لم تتحدَّث عن ثروته وقصر المدَّة التى قضاها على أريكة المشيخة، وقد صُرِفت أقلام المؤرِّخين عن الخوض فى سِيرته، واستقصاء المناقب الكثيرة التى يمتازُ بها على غيرِه.
مؤلفاته وموقف المؤرخين منها
لم يتحدَّث المؤرخون ولا المترجمون عن تَصانيف الإمام «السجيني» ولم يذكروا عنها شيئًا، وهناك أمورٌ وأسباب؛ ربما يكون الشيخ من النوع الذى يُؤثر إيداعَ العلوم فى صُدورهم على تقليدها فى القراطيس، وأنْ يكون قدوة عمليَّة لطلابه فى السُّلوك والتدريس، ويظهر أيضًا فى عدم تأليفه كتبًا أنَّه من النوع الذى يُؤثِرُ الاعتمادَ على الحفظ دون التدوين؛ وذلك اقتداء بالسلف الصالح من أصحاب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين كانوا لا يستريحون لتدوين العلم، والكل يعلم أنَّ حديث الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يحفظُ متنًا وسندًا، وكان لا يُطلَقُ لقب «الحافظ» على أحدٍ من الناس إلا إذا بلغ عدد ما يحفظُ من الأحاديث مائة ألف، متنًا وسندًا، وأيضًا اسم أيٍّ منهم فى وقت ذكروا عنه أنَّه شيخ الشافعيَّة دُون منازعٍ، وليس من المعقول ولا من المقبول أنْ يُقدِّموه عليهم، ولا يكون له من التلاميذ مَن يشدُّون أزرَه ويعضدون زعامتَه، وقد كان التلاميذ فى هذا العصر هم الذين ينحازون إلى الشيخ حتى يُجلِسوه على كرسيِّ المشيخة، وهناك دليل على هذا الإغفال، فقد أغفلت المصادر شيوخَه ولم تترجم منهم إلا لأبيه وابن أخته الذى جاء فى ترجمته ما نصُّه: «العمدة العلامة، والحبر الفهَّامة، قدوة المتصدِّرين ونخبة المتفهِّمين، النبيه المتفنِّن، الشيخ محمد بن إبراهيم بن يوسف الهيثمى السجينى الشافعى الأزهري، الشهير بأبى الإرشاد، وُلِد سنة 1154ه،ـ وحَفِظ القُرآن وتفقَّه على يد الشيخ المدابغي، والبرماوي، والشيخ عبدالله السجيني، وحضر دروس الشيخ الصعيدى وغيره من العلماء.
وأجازه أشياخ العصر، وأفتى ودرس وتولَّى مشيخة رواق الشراقوة بالأزهر».
بعد وفاة خاله الشيخ عبدالرؤوف، ونتيجة التدخُّل الأجنبى فى شئون البلاد تحدثُ فترات ركود اقتصادى وثقافى وسياسي، ويحجمُ المؤرِّخون عن تدوين ما يحدثُ فى تلك الفترة، ويفضِّلون الكتابة عن الشخصيَّات المهمَّة، وعن الأدباء والعلماء، ليس إهمالاً، وإنما هو القهر والظلم والتكميم من المستعمِر، ويتمثَّل ذلك فى قول الشاعر:
يا قومُ لا تتكلَّموا إنَّ الكلام محرَّمُ
ناموا ولا تستيقظوا.. ما فاز إلا النُّوَّمُ
ولقد أغفل التاريخ الكثيرَ من علماء الأزهر، ولم يُسجِّلوا لهم ولم يكتبوا عنهم؛ ولذلك لم نجدْ لهؤلاء إلا أسماءهم فقط، فالتاريخ ما أهمَلَه وما أعجَبَه.
وفاته
وبعدُ، فهذه أثارةٌ من حياة الإمام الشيخ السجيني، وهى وإنْ كانت قصيرة إلا أنَّها تدلُّ على أنَّ الرجل كان إداريًّا من الطراز الأول، ولم يكن أقلَّ من سابقيه علمًا وفقهًا، واستحقاقًا للوظائف التى شغَلَها، وعلى رأسها مشيخة الأزهر، وقد سبق وعرفت أنَّ السبب فى قلَّة ما كُتِبَ عنه هو قصر المدَّة التى تولَّى فيها المشيخة، والتى لم تستمرَّ أكثر من سنةٍ، فقد انتقل إلى جوار ربِّه صاحبِ الرحمةِ ومالكِ الملكِ فى 14 من شوال سنة 1182هـ، وصلَّى عليه جمعٌ غفير فى الجامع الأزهر من العلماء والأمراء والطلاب، ورجالات الدولة، ومشى الناس فى جنازته فى موكبٍ غفيرٍ رهيب، وبكاهُ البعيد والقريب، ودُفِنَ هذا الجسد الطاهر بجوار عمِّه الشمس السجينى بأعلى البستان.