الثلاثاء 28 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

محمد قنديل نصـف قرن مـن الطــرب

تلات سلامات، يا حلو صبح، جميل وأسمر، أبو سمرة السكرة، ويارايحين الغورية، سماح ياهل السماح، بين شطين ومية، إن شاء الله ما أعدمك، يامهون هون، ماشى كلامك، سحب رمشه ورد الباب، أعمال غنائية خالدة لصوت لا تخطئه أذن، وأداء متفرد، محمد قنديل  صاحب الألف حنجرة المطرب المصرى الأصيل، صوت النيل العذب الذى أطربنا نصف قرن من الزمان.



فى خطوة بحثية متفردة وكاشفة لإرث محمد قنديل الغنائى وضمن مشروع توثيق رواد الطرب الأصيل للكاتب (مُحب جميل) وكتابه الجديد (محمد قنديل – 3 سلامات) الصادر عن (آفاق) للنشر والتوزيع 2023.

رغم صعوبة رحلة البحث عن مواد أرشيفية تخص مسيرة محمد قنديل الموسيقية والحياتية، وأن المتاح من معلومات يفتقد إلى الدقة والموضوعية، إلا أن الكاتب المحب للطرب الأصيل خاض الرحلة لمعرفة سبب ندرة المعلومات، وتوصل إلى أن الندرة لم يكن مصدرها تقصير المتابعة الصحفية أو النقدية بل مصدرها (قنديل) نفسه الذى عاش طول حياته بعيدا عن الصحافة ويتعامل معها بحذر.

 

كشف الكاتب عن إرث قنديل الغنائى الذى تخطى الـ800 غنوة بين الأغنية الشعبية والموال والموشح والأغنية السينمائية والأغانى العاطفية الوطنية والدينية ومشاركات غنائية بالتليفزيون والصور الغنائية منذ بدايته ١٩٤٦ وحتى وفاته 2004. 

إلا أن هذا الكشف جعلنا نطرح سؤالا أين كل هذا الإرث لم نسمعه ولم يحصد قنديل شهرة إلا  بعدد محدود، ونحن لا نعلم إذا كان هناك تعمد أو قصدية فى إخفاء تراثه أم حدث معه مثلما حدث مع تراث الآخرين (فقد ولم يعد).

اخترنا لكم بعضًا من لمحات مسيرة محمد قنديل.

 

قنديل محمد حسن

 

مثله مثل نجوم الزمن الجميل يصعب تأكيد تاريخ ميلادهم وليس أمام الباحث إلا استخدام التاريخ المتداول، الاسم الحقيقى (قنديل محمد حسن - 11/3/1929) ابن حى شبرا بالقاهرة أسرته شكلت ذائقته الموسيقية، والده يجيد العزف على آلتى العود والقانون، والدته تحب الغناء والجدة مغنية، وابن عمته المطرب (عبداللطيف عمر) وملتقى الأسرة للغناء كان كل ثلاثاء بمنزل زوج عمته بحى المنيرة، وكان يقصد المنزل مطربون المرحلة: صالح عبد الحى، محمد عبد الوهاب، زكريا أحمد وآخرون، وكان قنديل يغنى دور (أنا هويت) للشيخ سيد درويش والإشادة بصوته.

 

اللقاء الأول مع أم كلثوم

 

عاش طفولة هادئة فى أجواء فنية، يحب الأجواء الروحانية مواظبًا على سماع تلاوة القرآن الكريم، يقضى معظم وقته فى العزف، التحق بمعهد الاتحاد الموسيقى ودرس العود، ومن كفاءته بالعزف طلبت منه إدارة المعهد أن يدرس لزملائه، وبالمعهد كان أول خطوة نجومية باللقاء الأول مع أم كلثوم حضرت بالمعهد لتختار كورس للغناء بفيلمها (عايدة) 1942 للمخرج أحمد بدرخان، التقطت أم كلثوم نبرة صوته توسمت فيه خيرًا، كان وقتها شاب صغير يتعلم، واختارته ضمن كورس لأغنية (القطن) من ألحان زكريا أحمد، وأيضا محمد عبد الوهاب عندما زار المعهد أوصى القائمين على التدريس بأن يهتموا به لتميز النبرة الصوتية.

 

أين إرث محمد قنديل؟

 

بحسب ما رصده الكاتب بملحق الكتاب وبتفاصيل دقيقة زمنية من الأربعينيات إلى التسعينيات كشف عن أن بالإذاعة المصرية إرث عظيم سجل بها قنديل 438 أغنية متنوعة، أغلبها لم نسمعها ولم نسمع عنها.

بدأ قنديل الغناء على الهواء مباشرة بالإذاعة المصرية من خلال ركن الأغانى الشعبية بإشراف الملحن على فراج أستاذه بالمعهد، وأقدم تسجيلاته بالإذاعة 1946 ديالوج غنائى (الفل) مع زميلته بالمعهد شافية أحمد، وبنهاية 1946 شارك برنامجا إذاعيا غنائيا بعنوان (فى الليل) مع كارم محمود، وشافية أحمد والطفلة نجاة الصغيرة.

وبعام 1947 قدمته الإذاعة فى أغان خاصة به من تلحين على فراج وهما: الأغنية الوطنية (الراية المصرية) كتبها سعد سرور. (التمر حنة) كلمات أحمد شومان وبنجاح هذه الأغنية أسندت له الإذاعة غناء العديد من مختاراتها الغنائية.

كما قدمت الإذاعى الكبير عبد الوهاب يوسف بصورة غنائية مع سعاد مكاوى بعنوان (كل شىء جميل) 1948، بالاذاعة1949 انطلق قنديل كملحن وقدم من ألحانه أغنيتين (ع المعياد) كلمات على بحيرى، (يا حلوة يا أم الصفا) كلمات زين العابدين عبدالله.

 

حليم وقنديل بالغورية

 

غنوتان وضعتا الملحن كمال الطويل وقنديل على خارطة المتميزين بالطرب المصرى بالخمسينيات الأغنيتان من كلمات الشاعر محمد أحمد على وهما (يارايحين الغورية هاتوا لحبيبى هدية)، (بين شطين ومية).

أغنية (يارايحين الغورية) أحدثت خلافا بين كمال الطويل وقنديل، حكى قنديل القصة أنه بعد نجاح الغنوة بصوته عرضت شركة أسطوانات (كايروفون) على (قنديل) مبلغ 50 جنيها لتسجيل الأغنية فرفض وتمسك برفضه، فعرض الملحن كمال الطويل على الشركة أن تسجل الغنوة بصوت عبد الحليم بالأجر المعروض من الشركة فوافقت الشركة وسجلها عبد الحليم. إلا أن قنديل لم يتخل عن أنه مغنى الغنوة الأصلى، فذهب إلى الشركة وعرض أن يسجلها (مجانا) ورحبت الشركة، والأسطوانة بصوت عبدالحليم لم تلق رواجًا فى السوق، بينما الأسطوانة بصوت قنديل انتشرت وطبعت أكتر من مرة.

ويبدو أن هذا الموقف لم ينساه كمال الطويل طوال حياته فلم يتعاونا معا حتى رحيل كل منهما. وحين سأل (الطويل) عن رأيه بصوت قنديل ذكر: «إنه صوت جميل وكان أجمل صوت فى مصر فى وقت لحنت له أنا وأحمد صدقى ومحمود لشريف، لكن عيب قنديل أن صوته أقرب إلى الأداء البلدى ونوعية الأغنية العاطفية عايزة أداء شيك».

 

3 سلامات وشوية

 

بغلاف الكتاب اختار الكاتب اسم الغنوة بالأرقام (3 سلامات) وليس تلات سلامات، هذا الترقيم العددى اختيار مغاير وجذاب ومشاغبة من المحب العاشق للشاعر مرسى جميل عزيز الذى كان قد حسمها بالغنوة بأنهم ثلاث سلامات فقط، إلا أن الشاعر عاد وقال تلات سلامات وشوية!

 انها من درر قنديل الخالدة إلى الآن وقدمها بالخمسينيات (تلات سلامات ياواحشنى تلات أيام/ بإيدى سلام/ وعينى سلام/ وقلبى سلام) وملحنها محمود الشريف الذى أدخل باللحن إيقاع الفالس الراقص. ونجاح هذه الغنوة وغيرها من الأغانى العاطفية ردا جماهيرى على اتهام كمال الطويل أن أداءه بلدى. 

ويليها (سماح ياهل السماح) من كلمات محمد حلاوة ألحان أحمد صدقى. وأغنية (إن شاء الله ما أعدمك) كلمات فتحى قورة وألحان أحمد صدقى.

 

أغانٍ لم نسمعها

 

قنديل أكثر مطرب غنى الأغانى الوطنية واكب الأحداث ولكننا لم نسمع منها إلا قليل القليل، بحسب ما وثقة الكاتب وبذل مجهودا مميزا فى حصرها على سبيل المثال: (ابن البلد) غناها لمعركة بورسعيد 1956، (أبو الأنهار، أبو المعجزات مطلعها مهندسين وبنايين) وكلاهما 1964 غناها للاحتفاء للسد العالى، (إحنا الأحرار) 1956غناها بمناسبة للجلاء، (أرض السلام) 1969 لحرب الاستنزاف، (السلام) 1978لمعاهدة السلام.

غنى لثورة 1952 (الراية) من ألحانه، ويليها (ع الدوار) لحنها أحمد صدقى. بتوقيت العدوان الثلاثى 1956 (يا ويل عدو الدار)، 1958 (وحدة ما يغلبها غلاب) كلمات محمود بيرم التونسى ألحان عبد العظيم عبد الحق واكبت قيام الجمهورية العربية المتحدة والوحدة بين مصر وسوريا.

 

محمد فوزى وقنديل

 

ربطت قنديل علاقة صداقة مع المطرب محمد فوزى نتج عنها تعاون مع شركة فوزى للأسطوانات (مصرفون) سجل قنديل (أبوسمرة السكرة) 1957كلمات محمد حلاوة وألحان وغناء قنديل.

وأغنية (جميل وأسمر) 1962 من كلمات عبد المنعم السباعى وألحان عبد القادر، وأصبحت الغنوتان من أشهر أغنيات قنديل، وضمن المواد الأرشفية بالكتاب صور لعقود شركة الأسطوانات موقعة من قنديل وبختم الشركة، ويحسب لمصمم الغلاف استخدام الختم والتوقيع ضمن رموز الغلاف.

 

38 أغنية بالسينما 

 

بعالم السينما قدم 38 أغنية من الأربعينيات إلى الخمسينيات، أولها بفيلم (بابا عريس) 1950 مع نعيمة عاكف واستعراض غنائى (بين الحديد والنار) كلمات حسن توفيق وألحان عبدالعزيز محمود، بفيلم (ابن الذوات) غنى (مالى بيه)، وبفيلم (أرحم دموعى) غنى (بالعين والحاجب)، ومن أشهر أغانى الأفلام أغنيتين هما (يا حلو صبح) بفيلم (شاطئ الأسرار)، وبفيلم (صراع فى النيل) أغنية (يامهون هون) وكلاهما كلمات مرسى جميل عزيز وألحان محمد الموجى.

وبمرحلة الستينيات شهدت أغنيات مميزة من ألحان عبد العظيم عبد الحق وهما: (ماشى كلامك) من كلمات محمد على أحمد، (سحب رمشة) من كلمات عبد الفتاح مصطفى.

 

حرب الكبار

 

ظل يكن لأم كلثوم مكانة كبيرة فى قلبه لأنها كانت تمدح صوته إلا أن أم كثلوم قالت عن صوته: «يمتلك صوتا قويا وقادرعلى اداء كل الألوان الغنائية، لكن عيبه الوحيد أنه لا يعرف قيمة جمال حنجرته ولا يعرف كيف يستثمر هذه القيمة فى امتاع الجمهور».

أما الموسيقار محمد عبدالوهاب فهو العلاقة الأغرب بمسيرة قنديل ولم يلحن له ولو غنوة واحدة، كان قنديل مطربه المفضل بالأخص بالمنزل بسهرات عبدالوهاب الخاصة فكان يطلبه «تعالى غنى ياقنديل» ويذهب قنديل فورا، وقال عنه عبدالوهاب أنه أقوى صوت رجالى فى مصر وعندما يحتار عبد الوهاب من ضبط بعض القفلات الغنائية كان يستعين به.

وعن عبدالوهاب ذكر قنديل: «تمنيت طوال حياتى ان يلحن لى وكنت أخشى أن اطلب منه لحنا منعا للحرج فهو الأستاذ. 

كنت أتمنى أن يعرض عليه وأنا لا أفرض نفسى على أحد، أنا أمام عبدالوهاب 17 سنة يعرفنى ويشهد لصوتى فلماذا لم يلحن لى».

أما عبدالحليم حافظ علاقته عادية بقنديل يقدمه عبد الحليم فى الجلسات الخاصة ويصفه بالأستاذ، إلإ أن قنديل ذكر أن أصدقاء عبد الحليم والأشخاص المحيطون به حاربوه.

 

رفض بليغ حمدى

 

بمنتصف الستينيات تعاون لم يتم بين قنديل وبليغ حمدى، حكى قنديل أن بليغ قد عرض عليه أغنية (قولوا لعين الشمس) كلمات الشاعر مجدى نجيب وأعجب بها قنديل وطلب من بليغ بعض التغيرات فى قفلة اللحن، إلا أن بليغ لم يوافق وأعطى الأغنية إلى شادية.

 

آراء الملحنين والنقاد

 

أجمعوا على أنه يمتلك خامة صوتية غاية الندرة والتميز هو صاحب الألف حنجرة، محمد الموجى: «صوت مصرى أصيل حريف مغنى وصوته «يشبع»، رياض السنباطى: «صوت قادر أن يؤدى كل ألوان الغناء» محمود الشريف: «صوته حساس وأمين وله قدرات ضخمة ولكنه يسير فى اتجاه مضاد».

المايسترو سليم سحاب: إن ما يميز حنجرته كبر المساحة الصوتية أن صوته يمتلك 12 درجة صوته، ومتمكن من أداء كل المقامات الموسيقية العربية.

كمال النجمى: «الأهمية الخاصة لصوته أنه احتفظ بمواصفاته خلال أربعين عاما انتفع الملحنين بصوته وانتفع هو بألحانهم وكانت النتيجة دخلت ألحانهم وغناء قنديل تراث الغناء العربى المعاصر».

أما قنديل فكان لا يحب أن يصنف نفسه مطربا شعبيا رغم أنه لا يرفض لقب المطرب الشعبى، وذكر: «يجب التفريق بين المطرب الشعبى والأغنية الشعبية، فالمطرب يغنى كل الألوان بما فيها الشعبى، وإلا كنا وصفنا محمد عبد الوهاب على عبد الحليم أو شادية بأنهم أصوات شعبية لأنهم قدموا بعض الأغنيات الشعبية».

 

طيور العزلة 

 

عاش حياة هادئة شغوفًا بالنجارة والعمارة والرسم الهندسى وجامعًا لألعاب الأطفال ومربيًا لتشكيلة كبيرة من الطيور والببغاوات والكنارى وتربية أسماك الزينة. وكان لديه (غية) حمام. ومن مقتنياته 130 عودا.

عودة مرة أخرى لغلاف الكتاب لاستكمال الإشادة بأهميته البصرية، وبتأمل الصورة الشخصية لـ قنديل هى من أقرب الصور لشخصيته الحقيقية الهادئة، وطيور (الغية) المدربة على الرحيل والعودة له تظهر محلقة حوله هم ونس أيامه  الأخيرة وأعظم بدليلا عن البشر. ابتعد فى الثمانينيات والتسعينيات عن الساحة الغنائية وذكر أنه يعجبه: محمد الحلو ومدحت صالح وعلى الحجار وهانى شاكر، ويرى أن الأغنية المصرية فقدت شرقيتها بتقليد الغرب. يرفض فكرة تسجيل الأغانى بطريقة (الفيديو كليب).

 فى سنواته الأخيرة كانت حالة الحزن تسيطر عليه أدى مرض السكرى إلى مضاعفات ومشاكل بالقلب وسافر للعلاج بأمريكا لإجراء جراحة على نفقة الدولة.

 وبنهاية 1998 كرمه مهرجان الموسيقى العربية.. وبعد صراع مع المرض رحل بهدوء 8/6/2004.