الجمسى.. النحيف المخيف والمفاوض الشرس
روزاليوسف اليومية
بعد انتهاء إحدى جلسات مفاوضات فض الاشتباك الأول (الكيلو 101) التى أعقبت عبور القوات المصرية لقناة السويس فى حرب أكتوبر 1973، خرج الفريق عبد الغنى الجمسى -رئيس وفد المفاوضات المصرى وكان رئيسا لأركان الجيش- من خيمته للتفاوض دون أن يسلم على أى من أعضاء وفد المفاوضات الإسرائيلى أو تصدر عنه كلمة واحدة، وكانت هذه عادته طوال زمن المفاوضات، فأسرع وراءه قائد الوفد الإسرائيلى الجنرال عيزرا وايزمان الذى أصبح رئيسا لإسرائيل فيما بعد، وقال له سيادة الجنرال، لقد بحثنا عن صورة لك وأنت تضحك فلم نجد، ألا تضحك أبدا؟!
فنظر إليه القائد المصرى شزرا ثم تركه ومضى.. وبعدها كتب وايزمان فى مذكراته عن المشير الجمسى لقد هزنى كرجل حكيم للغاية، إنه يمثل صورة تختلف عن تلك التى توجد فى ملفاتنا، ولقد أخبرته بذلك.
بساطة الفلاح وعظمة الجنرال المنتصر هما وجهان لعملة واحدة لم يعرف المشير الجمسى غيرهما فى حياته الطويلة التى لم يكن فيها سوى فلاح أو جنرال؛ ففى نهاية عام 1921 ولد الطفل محمد عبد الغنى الجمسى لأسرة ريفية كبيرة العدد فقيرة الحال يعمل عائلها فى زراعة الأرض فى قرية البتانون بمحافظة المنوفية، ولفقر الأسرة المدقع كان الوحيد من بين أبنائها الذى حصل تعليما نظاميا قبل أن تعرف مصر مجانية التعليم، ولعب القدر دوره فى حياة الجمسى بعد أن أكمل تعليمه الثانوي، حينما سعت حكومة مصطفى النحاس باشا الوفدية لاحتواء مشاعر الوطنية المتأججة التى اجتاحت الشعب المصرى فى هذه الفترة؛ ففتحت -لأول مرة- أبواب الكليات العسكرية لأبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة التى كانت محرومة منها، فالتحق الجمسى ولم يكن قد أكمل السابعة عشرة بالكلية الحربية مع عدد من أبناء جيله وطبقته الاجتماعية الذين اختارهم القدر لتغيير تاريخ مصر؛ حيث كان من جيله جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وصلاح وجمال سالم، وخالد محيى الدين.. وغيرهم من الضباط الأحرار، وتخرج فيها عام 1939 فى سلاح المدرعات، ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية ألقت به الأقدار فى صحراء مصر الغربية؛ حيث دارت أعنف معارك المدرعات بين قوات الحلفاء بقيادة مونتجمرى والمحور بقيادة روميل، وكانت تجربة مهمة ودرسا مفيدا استوعبه الجمسى واختزنه لأكثر من ثلاثين عاما حين أتيح له الاستفادة منه فى حرب رمضان.
وعقب انتهاء الحرب واصل الجمسى مسيرته العسكرية؛ فتلقى عددا من الدورات التدريبية العسكرية فى كثير من دول العالم، ثم عمل ضابطا بالمخابرات الحربية، فمدرسا بمدرسة المخابرات؛ حيث تخصص فى تدريس التاريخ العسكرى لإسرائيل الذى كان يضم كل ما يتعلق بها عسكريا من التسليح إلى الإستراتيجية إلى المواجهة. فكان الصراع العربى الإسرائيلى هو المجال الذى برع فيه الجمسي، وقضى فيه عمره كله الذى ارتبطت كل مرحلة فيه بجولة من جولات هذا الصراع منذ حرب 1948 وحتى انتصار 1973، وحتى بعد اعتزاله للحياة العسكرية ظل مراقبا ومحللا للوضع المشتعل، مؤمنا بأن أكتوبر ليست نهاية الحروب، وأن حربا أخرى مقبلة لا محالة.
وكانت هزيمة يونيه 1967 بداية تصحيح المسار فى مواجهة آلة الحرب الصهيونية؛ حيث أسندت القيادة المصرية للجمسى مهام الإشراف على تدريب الجيش المصرى مع عدد من القيادات المشهود لها بالاستقامة والخبرة العسكرية استعدادا للثأر من الهزيمة النكراء، وكان الجمسى من أكثر قيادات الجيش دراية بالعدو، فساعده ذلك على الصعود بقوة، فتولى هيئة التدريب بالجيش، ثم رئاسة هيئة العمليات، وهو الموقع الذى شغله عام 1972، ولم يتركه إلا أثناء الحرب لشغل منصب رئيس الأركان.
لم يضيع الجمسى يوما واحدا؛ فبدأ الاستعداد لساعة الحسم مع العدو الصهيونى فكان لا يتوقف عن رصده وتحليله وجمع كل المعلومات عنه، وعندما تم تكليفه مع قادة آخرين بإعداد خطة المعركة أخذ يستعين بكل مخزون معرفته، وبدأ تدوين ملاحظاته عن تحركات الجيش الصهيوني، وتوقيتات الحرب المقترحة، وكيفية تحقيق المفاجأة. وللحفاظ على السرية التامة دوَّنَ كل هذه المعلومات السرية فى الشىء الذى لا يمكن لأحد أن يتصوره؛ فقد كتب الجمسى كل هذه المعلومات فى كشكول دراسى خاص بابنته الصغرى؛ فلم يطلع عليه أو يقرؤه أحد إلا الرئيس المصرى أنور السادات والسورى حافظ الأسد خلال اجتماعهما لاتخاذ قرار الحرب!
واختار القائد المصرى المحنك توقيت الحرب بعناية بالغة الساعة الثانية ظهرا من يوم السادس من أكتوبر 1973 الموافق العاشر من رمضان 1393، وهو أنسب توقيت ممكن للحرب؛ نظرا لوجود 8 أعياد يهودية وموافقته لشهر رمضان. ولأن التنسيق بين الجيشين المصرى والسورى كان من أصعب مهام الحرب، ويحتاج إلى قائد من طراز فريد؛ لم يكن هناك أفضل من الجمسى.
عاش رئيس هيئة العمليات المسئول الأول عن التحركات الميدانية للمقاتلين ساعات عصيبة حتى تحقق الانتصار، لكن أصعبها تلك التى تلت ما عرف بثغرة الدفرسوار التى نجحت القوات الصهيونية فى اقتحامها، وأدت إلى خلاف بين الرئيس السادات ورئيس أركانه وقتها الفريق سعد الدين الشاذلى الذى تمت إقالته على أثرها ليتولى الجمسى رئاسة الأركان، فأعد على الفور خطة لتصفية الثغرة وأسماها شامل، إلا أن السادات أجهضها بموافقته على فض الاشتباك الأول عقب زيارة وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر للقاهرة!
وبانتهاء المعركة وتكريم اللواء الجمسي وترقيته إلى رتبة الفريق، ومنحه نجمة الشرف العسكرية.. لم تنته الساعات العصيبة فى حياة الجمسى؛ فقد عاش ساعات أقسى وأصعب؛ هى ساعات المفاوضات مع عدو ظل يقاتله طيلة أكثر من ربع قرن.
من أغرب الألقاب التى أُطلقت على المشير الجمسي؛ فكان ذلك الذى أطلقته عليه جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل إبان حرب أكتوبر، حين وصفته بـالجنرال النحيف المخيف.
وفى صمت رحل المشير الجمسى بعد معاناة مع المرض؛ العدو الوحيد الذى لم يستطع قهره، فرفع له الرايات البيضاء؛ استجابة لنداء القدر، وصعدت روحه إلى ربه فى 7-6-2003 عن عمر يناهز 82 عاما.