إبراهيم الرفاعى.. قائد مجموعة «الأشباح»
روزاليوسف اليومية
أربعون عامًا مرت على ملحمة العبور.. «السادس من أكتوبر.. العاشر من رمضان».. هذا اليوم الذى سطرته دماء طاهرة على أرض سيناء المصرية.. لتسترد كرامة أمة أهينت وكبرياء انكسر فى 1967.. لكن رجالها بكل شمم وإصرار وعزة.. أبوا أن تظل هذه الأمة مهزومة؛ فأخذوا بالثأر لإخوانهم الذين سالت دماؤهم شهادة على تراب هذه الأرض.
أربعون عامًا مرت على هذا اليوم.. لتتجدد فى ذكراه احتفالاتنا وأفراحنا.. أربعون عامًا هى عمر أجيال تمثل السواد الأعظم من تعداد هذا الشعب الأبى.. لقد فات هذه الأجيال مشهد العبور وارتفاع رايات النصر.. فاتتهم رؤية العلم المصرى يرفرف خفاقًا فوق رمال سيناء، فيخطف معه القلوب.. فاتهم إحساس جيل كامل عاش تلك الفترة بعذاباتها وآلامها وانكساراتها.. فكانوا كمن سقط فى هوة سحيقة من الذل والانكسار واحتلال الأرض.. فاتتهم رؤية تحطم أسطورة أقوى مانع مائى على مستوى العالم بالأيادى السمراء.
فى هذه الذكرى العظيمة.. تشارك “روزاليوسف” شعب مصر وقراءها الاحتفال بهذا اليوم الخالد.. بملف خاص عن هذا النصر ينشر على مدار أسبوع.. يضم مجموعة من الحوارات واللقاءات والتحقيقات المميزة والتقارير والانفرادات وأسرار هذه الحرب التى لم تتكشف ولم يعلن عنها كاملة.. لتتحقق كلمة السادات التى قالها كأنه يحيا بيننا.. “وربما جاء يوم نجلس فيه معًا.. لا لكى نتفاخر ونتباهى.. ولكن لكى نتذكر وندرس ونعلم أولادنا وأحفادنا جيلا بعد جيل.. قصة الكفاح ومشاقه.. ومرارة الهزيمة وآلامها.. وحلاوة النصر وآماله.. نعم سوف يجىء يوم نجلس فيه لنقص ونروى ماذا فعل كل منا فى موقعه.. وكيف حمل كل منا أمانته وأدى دوره”.
قاد العميد أركان حرب إبراهيم السيد محمد إبراهيم الرفاعى المجموعة 39 قتال صاعقة، خاصة «مجموعة الأشباح» إبان حرب أكتوبر واستشهد فيها يوم الجمعة 19 أكتوبر 1973- 23 رمضان 1393 وعمره لم يتجاوز 42 عاما، بعد أن ضرب المثل فى الفدائية والشجاعة فى القتال.
بعد معارك 1967 وفى يوم 5 أغسطس 1968.. بدأت قيادة القوات المسلحة فى تشكيل مجموعة صغيرة من الفدائيين للقيام ببعض العمليات الخاصة فى سيناء، باسم فرع العمليات الخاصة التابعة للمخابرات الحربية والاستطلاع كمحاولة من القيادة لاستعادة القوات المسلحة ثقتها بنفسها والقضاء على إحساس العدو الإسرائيلى بالأمن، وبأمر من مدير إدارة المخابرات الحربية اللواء محمد أحمد صادق.. وقع الاختيار على إبراهيم الرفاعى لقيادة هذه المجموعة، فبدأ على الفور فى اختيار العناصر المناسبة.
كانت أولى عمليات هذه المجموعة نسف قطار للعدو عند «الشيخ زويد».. ثم نسف «مخازن الذخيرة» التى تركتها قواتنا بعد انسحابها من معارك 1967، وبعد هاتين العمليتين الناجحتين، وصل لإبراهيم خطاب شكر من وزير الحربية على المجهود الذى يبذله فى قيادة المجموعة.
مع الوقت زادت أعداد المجموعة التى يقودها البطل، وصار الانضمام إليها شرفا يسعى إليه الكثيرون من أبناء القوات المسلحة، وزادت العمليات الناجحة، ووطأت أقدام جنود المجموعة الباسلة مناطق كثيرة داخل سيناء، فصار من الضرورى اختيار اسم لهذه المجموعة، وبالفعل أُطلق عليها «المجموعة 39 قتال بدءًا من 25 يوليو 1969، واختار الرفاعى لها «رأس النمر» رمزًا، الذى سبق أن اتخذه الشهيد أحمد عبد العزيز خلال معارك 1948.
كانت نيران المجموعة أول نيران مصرية تطلق فى سيناء بعد نكسة 1967، وأصبحت عملياتها مصدرًا لرعب وقلق العدو الإسرائيلى أفرادًا ومعدات، ومع نهاية كل عملية كان إبراهيم يبدو سعيدًا كالعصفور تواقا لعملية جديدة، يبث بها الرعب فى نفوس العدو. فقد نسف مع مجموعته قطارا للجنود والضباط الإسرائيليين عند منطقة الشيخ زويد.
فى مطلع عام 1968، نشرت إسرائيل مجموعة من صواريخ أرض – أرض لإجهاض أى عملية بناء للقوات المصرية، ورغم حرص إسرائيل فى إخفاء هذه الصواريخ بكل وسيلة ممكنة، فإن وحدات الاستطلاع كشفت العديد منها على طول خط المواجهة.
فى هذه الأثناء.. لم يكن الفريق أول عبد المنعم رياض يعرف طعمًا للنوم أو الراحة أو الاسترخاء فى معركته التى بدأها لإعادة بناء القوات المسلحة، فأرسل إلى المقاتل الثائر إبراهيم الرفاعي، وكان الطلب «إسرائيل نشرت صواريخ فى الضفة الشرقية، عايزين منها صواريخ يا رفاعى بأى ثمن لمعرفة مدى تأثيرها على الأفراد والمعدات فى حالة استخدامها ضد جنودنا».
كان النجاح المذهل فى العملية أن الرفاعى ورجاله بأسلوبهم السريع فى التنفيذ عادوا بثلاثة صواريخ وليس بصاروخ واحد، فأحدثت العملية دويا هائلا فى الأوساط المصرية والإسرائيلية على حد سواء، ليتم عزل القائد الإسرائيلى المسئول عن قواعد الصواريخ.
وتتوالى عمليات المجموعة الناجحة لتحدث رأيا عاماً مصرياً مفاده «أن فى قدرة القوات المصرية العبور وإحداث أضرار فى الجيش الإسرائيلي»، حتى أُطلق عليهم مجموعة الأشباح.
صبيحة استشهاد الفريق عبد المنعم رياض.. طلب عبد الناصر القيام برد فعل سريع وقوى ومدوٍ حتى لا تتأثر معنويات الجيش المصرى باستشهاد قائده، فعبر الرفاعى القناة واحتل برجاله موقع المعدية 6، الذى أطلقت منه القذائف التى كانت سبباً فى استشهاد الفريق رياض، وأباد كل من كان فى الموقع من الضباط والجنود البالغ عددهم 44 عنصرًا إسرائيليًا.. تقدمت على أثرها إسرائيل باحتجاج إلى مجلس الأمن فى 9 مارس 1969، يفيد أن جنودهم قُتلوا بوحشية، ولم يكتف الرفاعى بذلك.. بل رفع العلم المصرى على حطام المعدية 6، بعد تدميرها.. فكان أول علم مصرى يرفرف على القطاع المحتل منذ 67، واستمر مرفوعاً قرابة 3 أشهر.
ففى صباح 6 أكتوبر هاجم الرفاعى محطة بترول بلاعيم.. لتصبح أول عملية مصرية فى عمق إسرائيل، ثم مطار شرم الشيخ صباح مساء السابع من أكتوبر، ثم رأس محمد، وشرم الشيخ نفسها طوال يوم 8 أكتوبر، ثم شرم الشيخ للمرة الثالثة فى 9 أكتوبر، ثم مطار الطور الإسرائيلى فى 10 أكتوبر، واستطاع فى هذا اليوم قتل جميع الطيارين الإسرائيليين الموجودين فى المطار، ثم قام بدك مطار الطور مرة أخرى فى 14 أكتوبر، ثم آبار البترول فى الطور يومى 15،16 أكتوبر، فكان لهذه الضربة أقوى الأثر فى تشتيت دقة وتقليل كفاءة تصوير طائرات التجسس والأقمار الصناعية الأمريكية.
وجاء يوم 18 أكتوبر.. ليتقدم السفاح شارون ومعه 200 دبابة من أحدث الدبابات الأمريكية، ولواء من جنود المظلات الإسرائيلية، وهم أكفأ وأشرس جنود الجيش الإسرائيلى يحميهم الطيران الإسرائيلي، وتقدمت هذه الجحافل للاستيلاء على مدينة الإسماعيلية، وتم الدفع باللواء 23 مدرع ليواجه القوات الإسرائيلية، لكن الدبابات الأمريكية والتغطية الجوية القوية كبدت اللواء المصرى خسائر فادحة، ما أجبر القيادة المصرية على سحبه.
وفى هذه الأثناء تلقى الرفاعى اتصالا.. ورد قال: «من؟» فجاءه الصوت «السادات معاك، يا رفاعى تعالى دلوقتى حالا، الموقف خطير يا رفاعي، مطلوب أن تعبر برجالك شرق القناة وتخترق مواقعهم حتى تصل إلى منطقة الدفرسوار، وتدمر المعبر الذى أقامة العدو لعبور قواته.. وإلا تغير مسار الحرب كلها».
كانت الكلمات واضحة وحاسمة من القيادة، وعاد الرفاعى إلى مجموعته وهو يحمل فوق كاهله عبء تغيير مسار الحرب، ويحكى على أبو الحسن وهو أحد الرجال الشجعان الأكفاء فى مجموعة الرفاعي: «كنا بعد كل عملية كأننا نولد من جديد، فكنا ننزل فى إجازة، ولكن بعد الثغرة، عدنا إلى مقرنا وتوقعنا أن ننزل إجازة، ولكننا وجدنا الرفاعى سبقنا إلى المقر، وفوجئنا أن هناك سلاحًا يتم صرفه لنا، وكله مضاد للدبابات، وكانت الأوامر أن نعود إلى الإسماعيلية لتدمير المعبر الذى أقامه العدو، ودخلنا الإسماعيلية ورأينا الأهوال مما كان يفعله الاسرائيليون بجنودنا .. كان العائدون من الثغرة يسألون سؤالاً واحدا «أنتم رايحين فين؟» فقد تحولت هذه المنطقة إلى ما يشبه الجحيم، ولكن الرفاعى ورجاله كان لهم اتجاه وهدف واحد، وهو إيقاف التوغل الإسرائيلي.
وهنا صرخ الرفاعى قائلا: «الرجل بدبابة يا أولاد»، وانطلقت مجموعة الأبطال لتوقف الزحف الإسرائيلي، ويدعى شارون الإصابة ويربط رأسه، ويطلب هليوكوبتر لتنشله من جحيم الرفاعى ورجاله، ما دفع الجنرال جونين قائد الجبهة الإسرائيلى فى ذلك الوقت للمطالبة بمحاكمة شارون لفراره من أرض المعركة، واستطاعت المجموعة 39 قتال أن تفجر المعبر وأن توقف الزحف الإسرائيلي.
فى اليوم التالى 19 أكتوبر.. أمر الرفاعى رجاله بالاستعداد لمعركة شرسة.. فى محاولة منه لتدمير قوات العدو، فقسم الرفاعى مجموعته إلى ثلاث مجموعات، وحدد لكل مجموعة هدفا، وفوجئ العدو بما لم يكن فى حسبانهم.. فقد وجدوا وابلاً من النيران ينهال عليهم من كل اتجاه.
ويحكى أبو الحسن ذلك المشهد فيقول: «صعد أربعة منا فوق قواعد الصواريخ، وكان الرفاعى من ضمننا.. وبدأنا فى ضرب دبابات العدو، وبدءوا هم يبحثون عن قائدهم حتى لاحظوا أن الرفاعى يعلق برقبته ثلاثة أجهزة اتصال، فعرفوا أنه القائد وأخرجوا مجموعة كاملة من المدفعية لضرب الموقع الذى يقف فيه الرفاعي، ولكننا رأيناهم فقفزنا من فوق قاعدة الصواريخ ولكن الرفاعى لم يقفز، فحاولت أن أسحب يده ليقفز، ولكنه دفعنى ورفض أن يقفز، وظل يضرب بشراسة حتى أصابته شظية أغرقت جسده بالدم.
ويستطرد: «علم السادات بإصابة الرفاعى فى أرض المعركة، فأمر بضرورة إحضاره إلى القاهرة بأى ثمن، وبالفعل ذهبنا إلى مستشفى الجلاء، وكان الأطباء فى انتظارنا فنظروا إليه والدماء تملأ صدره، وقالوا: (هيا بسرعة أدخلوا أبوكم إلى غرفة العمليات) فأسرعنا به ودخلنا معه، ورفضنا أن نخرج فنهرنا الطبيب، فطلبنا منه أن ننظر إليه قبل أن نخرج فقال: (أمامكم دقيقة واحدة) فقبلناه فى جبهته، وأخذنا مسدسه ومفاتيحه ومحفظته، ولم نستطع أن نتماسك لأننا علمنا أن الرفاعى قد استشهد».