الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

نجيب محفوظ.. رقيباً!




دخل «نجيب محفوظ» سيد الرواية العربية تاريخ الأدب العالمى بحصوله على جائزة «نوبل» فى الأدب عام 1988.
ولا يوجد سبب يدفعنى للكتابة عن الرجل الآن، لكننى أتذكره بكل الخير والتقدير والاحترام كلما تجدد الكلام بين أوساط المثقفين والنخبجية وأنصاص وأنصاف المواهب حول الرقابة والإبداع!
ربما لا يعرف أغلب هؤلاء أن نجيب محفوظ، وبالتحديد فى عام 1959 اختاره «د. ثروت عكاشة» وزير الثقافة وقتها ليشعل منصب مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية، وظل فى موقعه نحو عام ونصف العام.
أصيب أصدقاء وقراء «نجيب محفوظ» بدهشة وصدمة فكيف يكون رجلاً يدعو للحرية وينادى بها ويتخذ من الديمقراطية شعاراً ثابتاً له، ثم يرضى أن يكون رقيباً على الفن ويحد من حرية الفنانين؟!
وفى مذكراته البديعة التى أعدها الأستاذ الكبير الناقد «رجاء النقاش» قال: «إن الرقابة كما فهمتها ليست فنية ولا تتعرض للفن أو قيمته، ووظيفتها ببساطة هى أن تحمى سياسة الدولة العليا وتمنع الدخول فى مشاكل دينية قد تؤدى إلى الفتنة الطائفية، ثم المحافظة على الآداب العامة وقيم المجتمع وتقاليده فى حدود المعقول، وفيما عدا ذلك يحق للفنان أن يقول ما يشاء ويعبر عن نفسه بالأسلوب الذى يراه مناسباً».
ويكمل: أثناء عملى حاول البعض أن تمتد الرقابة إلى الفن وتتدخل فى مضمونه ولكننى قاومت هذه المحاولات، وكنت منحازاً للفن، وكانت الأجواء داخل الرقابة عندما تسلمت عملى بها تحمل روح العداء للفن، وكانت وظيفة الرقابة - لدى البعض - سبيلا للرشوة والفساد!
وفى أول اجتماع للأستاذ: «نجيب محفوظ» مع الرقباء أوضح لهم وجهة نظره فى الرقابة وأسلوبها وهدفها، وقال: «إن الرقابة ليست قيداً على الفنان، والرقيب ينبغى أن يكون صديقاً للفن لا عدواً له، مع الأخذ فى الاعتبار أن الأصل فى الفن هو «الإباحة»، أما المنع «فهو مثل الطلاق أى أبغض الحلال».
ويضيف: كانت أسعد أيام حياتى الوظيفية هى تلك التى أمضيتها فى الرقابة رغم المضايقات الكثيرة التى تعرضت لها من هؤلاء الذين لا يؤمنون بأن الرقابة يمكن أن تكون نصيراً للفن، لقد اختلفت مع أصحاب هذه العقليات وكثيراً ما ذهبوا - خاصة أولئك الذين تربطهم صلات مع القيادة السياسية - للشكوى منى عند وزير الثقافة، وفى كل مرة يأمر الوزير بتشكيل لجنة البحث الشكوى، وفى كل مرة تنحاز اللجنة لموقفى وتؤيد وجهة نظرى، ولم تخذلنى اللجنة مرة واحدة، والأمثلة كثيرة، فعندما ظهرت الأغنية التى تقول كلماتها: «يا مصطفى يا مصطفي، أنا بحبك يا مصطفى، سبع سنين فى العطارين!» الخ فوجئت بمراقب الأغانى يصدر قراراً بمنعها، وكانت الأغنية تذاع فى الردايو ويغنيها الناس فى الشارع، ولم يكن أمام المراقب سوى مشروع لطبعها فى أسطوانات ولكنه أصدر قراراً بالمنع!! ولما سألته عن السبب؟! أعطانى أغرب إجابة يمكن أن أسمعها فى حياتى! إذ قال لى إن مؤلف الأغنية يقصد «مصطفى النحاس» - زعيم الوفد السابق - وأن «سبع سنين» الواردة فى الأغنية تشير إلى مرور سبع سنوات على قيام ثورة يوليو 1952، إلى هذا الحد من ضيق الأفق كانت العقليات التى تعمل معى فى جهاز الرقابة.
كما اختلفت ذات مرة مع مدير الرقابة على الأفلام «محمد على ناصف» لأنه سمح بعرض فيلم سينمائى أجنبى يسىء إلى اليابان، وكنت أرى ضرورة منعه من العرض فاليابان فى ذلك الوقت كانت قد وقفت إلى جانب مصر والرئيس «عبد الناصر» وساندتنا ضد الولايات المتحدة، ما وضع اليابان فى موقع الرضا والصداقة من النظام والشعب فى مصر، واستند «محمد على ناصف» فى موقفه إلى العلاقة القوية التى تربطه بالمشير «عبدالحكيم عامر» وسمح بعرض الفيلم!
وفى اليوم الأول للعرض - بعد حفل العاشرة صباحاً فى دور السينما كان السفير اليابانى فى مكتب «عبدالناصر» لتقديم احتجاج على عرض الفيلم، وأمر «عبدالناصر» برفع الفيلم من دور العرض فوراً، وبالفعل لم يعرض فى حفل الثالثة من بعد الظهر فى نفس اليوم الأول، وحدث ارتباك لدى هذه الدور خاصة أن الجماهير حصلت على تذاكر حفل الثالثة، ما اضطرها إلى رد ثمن التذاكر وإلغاء العرض.
وتأتى لواحدة من أغرب الحكايات حيث يقول الأستاذ «نجيب محفوظ»: فى أحد أفلام المخرج الراحل «عزالدين ذوالفقار» رأيت حذف بعض الأغانى لأن المطربة «صباح» تؤديها بطريقة مثيرة وألحان «عبدالوهاب» لهذه الأغانى كانت فيها إثارة جنسية فاضحة، ولأن «عزالدين ذوالفقار» كانت له علاقة قوية بالضباط الأحرار، فقد استطاع بنفوذ استصدار قرار بتشكيل لجنة للفصل فى أمر تلك الأغاني، وأيدتنى اللجنة فى موقفى بإجماع الآراء وأقرت ضرورة حذف هذه الأغانى».
وفى كلمات بالغة الدلالة لا يقولها إلا كبير فى قامة وقيمة «نجيب محفوظ» سيد الرواية العربية يعترف قائلاً: إننى أديت من خلال عملى فى الرقابة خدمة للفن ما كان يمكن أن أؤديها فى موقع آخر، ولم أشعر فى لحظة من اللحظات أننى أخون نفسى كأديب وفنان.
معاك ألف حق يا أستاذ «نجيب».