الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الإمام تبنى مركزًا وسطًا بين «الإفراط» و«التفريط» فى فهم النصوص الشرعية

الإمام تبنى مركزًا وسطًا بين «الإفراط» و«التفريط» فى فهم النصوص الشرعية
الإمام تبنى مركزًا وسطًا بين «الإفراط» و«التفريط» فى فهم النصوص الشرعية




متابعة- محمد خضير

يعد الإمام محمد عبده نموذجا يحتذى به فى هذه المرحلة الدقيقة التى تقوم فيها  مؤسسات الدولة بتطوير الخطاب الدينى لانه يمثل فى فكره المستنير شعاعا كاشفا لمن يضعون خططهم لهذا التطوير باعتباره من كبار المجددين وأبرزهم فى العصر الحديث حيث جاء فى فترة زعم فيها البعض أن باب الاجتهاد قد أغلق وأنه لا أمل فى التجديد واقتصر الباحثون على التقليد للسابقين ويأتى التالى فينقل عن السابق ولا يتجرأ شخص على نقد ما ينقله أو يزيد عليه. واستعرض الدكتور  عبد الفتاح عبدالغنى أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم سيرة حياة الإمام محمد عبده  وعلاقته بأستاذه جمال الدين الأفغانى وسفره إلى الغرب ومنهجه الذى يقوم على الاعتدال والوسطية ومدى جهده فى عملية تفسير القرآن الكريم


وقال عبد الغنى إن الإمام ولد سنة 1849 بقرية محل نصر بالبحيرة ونشأ فى أسرة عرفت بمقاومتها لظلم الحكام وتضحيتها من أجل الحق والواجب تلقى دروسه فى الجامع الأحمدى فى طنطا وهجر الدراسة بسبب أساليبها الصعبة ورفض والده وأعاده الى الدراسة ودخل الأزهر.
واتصل الإمام بأستاذه جمال الدين الأفغانى واقترب من فلسفته التجديدية التنويرية المنضبطة بقواعد اللغة وقوانين الشرع وبدأ يكتب فى الصحف مقالاته ومنها جريدة الأهرام التى كان من رواد الكتابة فيها، ونفى من مصر وحددت إقامته فى قريته وعاد للعمل ليصير محررا فى مجلة الوقائع ثم حكم عليه بالسجن فى ثورة عرابي. وعكف على البحث والتجديد من خلال تأملاته وأصدر مع الأغانى مجلة العروة الوثقى.
وأضاف:  ان الامام له منهج فى فهم النصوص الشرعية فالناظر فيما تركه من تراث فكرى يراه قد تبنى مركزا وسطا بين الافراط والتفريط والملاءمة بين التراث والتجديد والتقريب بين الاصالة والمعاصرة ومواجهة تيار التغريب.
واجه الإمام أنصار الأفكار المتشددة التى عرفت بالجمود والتقليد وبدأ يحث طلابه على التفكير واحترام العقل وإصلاح أساليب اللغة ويرد على هؤلاء الذين يروجون لفكر السلطة الدينية قائلا ليس فى الإسلام سلطة دينية والخليفة فى الإسلام حاكم مدنى سواء أتى بطريقة البيعة أو الاقتراع المباشر وهو الانتخاب.
وقال أيضا: الإسلام دين وشرح عبادة وسرور عقيدة واخلاق ووجود الأحكام الشرعية لا توجد إلا إذا وجدت سلطة تقوم بتطبيقها.
وقال عبد الغنى: اهتم محمد عبده بالإصلاح وانصف المرأة ولا يغيب عنا سورة النساء والتى اسمها يمثل الروح العام وحسبك هنا أن أسوق لك بعضًا من فهمه المستقيم.
أولا: تأملوا حين سئل الإمام عن قضية الفن قال إن الشريعة الإسلامية ابعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد التحقق أن هذا الفن لا خطر فيه على الدين لا من جهة العقيدة أو العمل.
واستطرد:  يلوم الإمام على المفسرين من غفلوا عن الهدف الذى من أجله أنزل القرآن والاكثار من أمور يخرج بالكثيرين من الكتاب الالهى ولهذا يراه قد قسم التفسير قسمين أحدهما تفسير جاف مبعد عن الله وهدايات الكتاب وهو ما يقصد به تعريف الالفاظ وإعراب الجمل قال هذا لا ينبغى ان يسمى تفسيراً بل دربًا من التدرب فى الفنون المتنوعة كالنحو وعلم الاشتقاق.
ثانيهما: ذهاب المفسر وبيان حكمة التشريع على الوجه الذى يجذب الارواح ليتحقق فيه معنى قوله «هدى ورحمة» وهذا هو القول الذى ارمى إليه فى معنى التفسير.
وتابع عبدالفتاح : أسوق كلاما للأستاذ الإمام فى هذا النموذج الذى يتعلق بقضية الربا يقول: ويحتج أكلة أموال الناس بالباطل الذين ينقطعون بأناس اتكاليين يدعون انهم انقطعوا عن الحياة تاركين الاعمال النافعة فلا يتعلمون علما ولا يجاهدون فى سبيل الله وليس فيهم صفة من الصفات ويأكلون بدينهم، وكذلك فإن الاسلام يبين لنا ان الايثار لابد ان يقابل بالعفة وعزة النفس فحين ذهب المهاجرون الى المدينة وجدوا إيثارًا من الانصار حتى ان البعض منهم عرضوا على إخوانهم تطليق زوجاتهم ليتزوجوا منهن ولكن المهاجرين قابلوا ذلك بالعفة.. بارك الله لكم فى أموالكم وبيوتكم دلونا على السوق.
ويرد الإمام على هذه الخزعبلات: هذه أوهام فإن المسلمين فى هذه الأيام لا يحكمون الدين فى اعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه ما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم .. ألم تسبقنا جميع الأمم إلى اتقان الصناعة والتجارة والزراعة فلماذا لا نتقنها ان ديننا يدعونا إلى ان نسبق الأمم فى الاتقان، المسلمون فى الاغلب نبذوا دينهم فلم يبق عندهم إلا عادات وتقاليد أخذوها بالوراثة فمن يدعى ان الدين عائق للترقى فقد عكس القضية وهذا من عدم البصيرة والتأمل الصادق لحال الأمة.
ولفت الدكتور محمد صابر عرب، وزير الثقافة السابق إلى أن الإمام ليس مجرد اسم أو مفسر أو فقيه، وإنما هو شخصية تركت العديد من القضايا للفكر المصرى، والفتاوى التى تحتاج لتأملها.
وقال: ما تركه يستحق الدراسة فى المدارس والمعاهد الدينية والأزهر الشريف، لأنه أحدث حالة كبيرة جدا فى حياتنا وعلينا استرجاعها حتى تكون حجة أمام المتشددين. وأشار إلى أن الإمام محمد عبده ترك تلاميذ مثل الشيخ عبد المتعال الصعيدى وهو أحد الأبناء المخلصين للإمام وأن مدرسة الإمام امتدت حتى وصلت لشيخ محمود شلتوت، كما اعتبر  الإمام الأكبر  أحمد الطيب شيخ الأزهر من تلاميذ محمد عبده، موضحا أننا فى حاجة إلى فكر محمد عبده وفى تلك اللحظة التى يبدو فيها القتل باسم الدين والإسلام وآن الأوان أن تكون كتاباته محلاً للدراسة وعلى كل مؤسسة تعليمية أن تأخذ من فكر الإمام محمد عبده منهجاً.
والتقط منه الخيط الدكتور أحمد زكريا الشلق ليواصل الحديث حول المدرسة العلمية والدينية للإمام وأضاف: إن لمحمد عبده  أيضا مدرسة فى السياسة المصرية وكلنا يتذكر حين لعن السياسة، فى حين أن هذه المسألة لم تكن كفرًا بالسياسة بقدر شعوره أن مصر لم تكن مستعدة للثورة ونيل الاستقلال فبدأ يفكر فى التربية والتعليم واصلاح الازهر والمؤسسات التشريعية لتطوير حال الأمة وأن مدرسته كانت ترى ضرورة وجود كفاءات حتى يتحقق الاستقلال ، لافتا إلى أن محمد عبده يعتبر مؤسس حزب الامة مع انه توفى قبل الاعلان عن الحزب وكان يرى أن كفاءات المصريين يمكنها تحقيق الاستقلال والتعامل مع واقع الاحتلال بشكل واقعى وعملى وان تتسلح بالعلم، ولذلك عمل على إصلاح التعليم، وبالفعل تم استبدال طريق الثورة بالإصلاح.
 وهو ما سماه لطفى السيد اعداد الأمة بكفاءات الاستقلال  وكان تلاميذه يرون  ان مصر ستصل الى الثورة بإعداد الشعب من خلال الكفاءات ليصبح المصريون اندادا لسلطات الاحتلال..
واقترح الإمام مشروعات وبرامج للإصلاح وهو ما يشير إلى أن  المسئولين عن اعداد الجامعة المصرية عام 1908 كانوا أيضا من تلاميذ الإمام وتبنوا فكرة مقاومة الاحتلال بالإصلاح.
وأكد الشلق: فكر الإمام وتراثه عظيم وزاخر فى كثير من الدراسات والمجالات ومن يقرأ ما كتبه الإمام سيجد الاستنارة فى القضايا العقلية والدينية.
وحول تجديد الفكر الدينى قال الشلق:إن ما طالب به الإمام منذ مائة عام لانزال نطالب به حتى الآن خاصة فى قضية التقليد والاجتهاد وموقف الاسلام من العلم الحديث.
وأضاف: فيما يتعلق بالتقليد والاجتهاد نعنى بها فتح باب الاجتهاد ومن كلام الامام» ان ابواب الاجتهاد مفتوحة فى جميع المسائل التى تثيرها ظروف الحياة ولا يجب ان تكون الكلمة للنصوص البالية.. الدين صديق العلم وكان الإمام يطالب بفهم الدين دون تعقيدات وان الدين  يستند على العلم واهتم بدراسة العقل الانسانى ورأى ان الفلسفة هى حب الحكمة وان التفكير الفلسفى لا يجب ان يكون نظريا ويجب ان يتورط فى الحياة.
كما دافع الامام عن حرية الفكر بينما الكافر هو المعاند الجامد وهو من يغمى عينيه ويسد أذنيه عن الحق وبين محمد عبده ان السلوك المعادى للفلسفة ليس دليلا على ان العيب فى الدين وكان يرى ضرورة الانفتاح  على العلوم.
وأضاف: ينبغى ان نميز بين الفهم والحفظ وكل من اعتقد شيئاً ولم ينفذ إلا باطنه فهو عبارة عن خيالات تذوب بمجرد الشبهة .. كما اثبت الإمام ان علم التوحيد تأسس على التنوير ودعا إلى المساواة بين البشر وكل ما دعت إليه قيم التنوير فى الغرب دعا إليها الاسلام منذ أن نزل من السماء.
وقال الإمام بالحرف: لقد تآخى العقل والدين فى كتاب مقدس .. وذكر أن بعض طوائف الاصلاح فى المدنية الغربية ذهبت الى اصلاح العقائد لا فى التصديق بالرسالة، واشاد بروح التعاطف بين المسلمين وبين جيرانهم وعدم استشعار عداوة لمن خالفهم لذلك انتشر الإسلام فى الصين بدون السيف بل بالقراءة فالإسلام يحضنا على ان نتعاون مع كل من جاورنا من شعوب الارض. وان تحرير العقل يقضى بأن يكون العقل ناقدا وليس هناك خلاف بين العلم والدين وكان مؤمنا بأن الدين والعلم ليس بينهما نزاع.
وتمسك بالرأى القائل ان العلم والدين يتمسكان وضرب أمثلة تفصيلية كثيرة ورأى ان الصدام نشأ من تدخل الفلاسفة الذين ساندوا بعض الاحزاب ولا يجب استعمال الدين للانشقاق.. كان الامام يمتلك فكرا ناقدا وانتقد المشتغلين بالعلم وضيق أفقهم وعاب على الفقهاء تشبثهم بحرفية النصوص.
وكان مؤمنا باكتشاف ما فى التراث من قيم وبين بإلحاح ضرورة تجديد عقائدنا بما يلائم الواقع ولمصلحة جموع المسلمين ويتساءل كيف تتوافق الاخلاق مع قوم يتعالون على الضعفاء ويتلقون الرشوة واستسلموا للحوادث وان المسلمين فقدوا الثقة فى انفسهم فنشأ التردد وقلة الهمة.
وتابع الإمام نهج الطهطاوى فى المواءمة بين الفكر الاسلامى والافكار الاوربية واصبح الاسلام مرادفا للتمدن واكد على ان الشعوب الاسلامية لن تتقدم الا اذا اقتبست من أوروبا انتاجها العقلى وعلى المسلمين اعادة تفسير الشريعة بناء على ظروفهم.
ومن جانبه قال الدكتور عبد الواحد النبوي: لكى نفهم كيف تمت صناعة محمد عبده لابد ان نعرف الزمن الذى ولد فيه وهو 1849 .. وهذا الزمن رغم ما كان فيه من عورات فإنه اعطاه الفرصة فى الحصول على العالمية فى سن صغيرة.
محمد عبده جاء من أقاصى الريف ولم يكن له أب يقدم له وسائل الثقافة والتحق بالأزهر فى سن السادسة عشر عاما وحصل على العالمية فى سن 26 عاما.
كانت أوروبا فى الوقت تطغى من خلال موجة استعمارية تمثلت فى امبراطوريات مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا وبلجكيا فى حين ان عالمنا العربى كان ينام فى ثبات عميق وهو ما كان له أثره فى من يدعو بأن تقوم الامة من ثباتها.
فى حين انقسمت الآراء حول هذا الأمر البعض رأى أننا لابد أن نعتصم بمجموعة من الآليات وان نخطو على نهج أوروبا ونتخلص من الخرافة والتقليد ونلبس ثوب أوروبا وهناك طائفة أخرى على العكس رأت  الخروج فى حركة اصلاحية مستنيرة تقدم المجتمع بخطوات كبيرة نحو الامام وهو ما فعله جمال الدين الأفغانى ومن سار على نهجه واتبع خطاه من تلاميذه الذين كان من بينهم الإمام محمد عبده وغيره ممن تبنوا حركة التنوير فى مصر وكان لهم التأثير الكبير فى تغيير مساراتها وصناعة تاريخها السياسى والفكرى والثقافى مثل سعد زغلول وأحمد لطفى السيد وغيرهم.
وأضاف إن الامام اقتدى  بالافغانى فى الدعوة الى التحرر وإصلاح الدين  وكان يدرك طبيعة  المجتمع المصرى كمجتمع متدين بطبعه ورأى ان عملية استيراد الافكار المغلفة ومحاولة زرعه فى الارض لن يجدى ورأى ان اصلاح حال المجتمع يأتى بإعمال العقل وتحريره فى كل النصوص الدينية.
وأعمل الامام عقله فى نموذج تعدد الزوجات ليجعل منها قوة تساعد فى تطوير المجتمع فرأى ان نظام تعدد الزوجات ليس عادة شرعية فالمغول لا يعرفون تعدد الزوجات ومن ثم فإن هذا النظام وليد ظروفه.. وأن تعدد الزوجات ارتبط بزيادة عدد النساء على الرجال فى الحروب القديمة.. وأن الاسلام اتخذ موقفا اصلاحيا من تعدد الزوجات فحدد العدد بأربع.. وليس صحيحا من ادعى ان الاسلام اقر التعدد الجاهلى فى الزوجات.
وأباح الإسلام التعدد لكى يخرج الناس من ظلم حيث كانوا يتزوجون من فى وصايتهن واباح تحقق العدل المطلق بين الزوجات وليس الاقتصار على الزوجة الواحدة .
والامام يرى ان العدل المطلق شرطا لاباحة التعدد وانه من الممكن اللجوء الى القاضى وذكر اسبابا معينة للتعدد.
وظهرت إصلاحيته فى التربية والتعليم وكان لا يرى نهوضا لهذه الامة بدون الاصلاح فى تعليمها. وقال لا قوة ولا ثروة الا بتلقى العلم والمعارف لخروج الأمة من كبوتها.