الثلاثاء 30 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مستثمر «كعب داير»

مستثمر «كعب داير»






إذا كان التراث الشعبى المصرى يقر بأن «الرجل يربط من كلامه»، فإن الدولة، بنفس المنطق، تقيد بتعهداتها التى تقطعها على نفسها أمام المصريين والعالم. فالشواهد العديدة تشير إلى مخالفة المسئولين لما يقولونه من تعهدات سبق وأن قالوها، بصفتهم الاعتبارية، ما يعظم من المشكلات التى تسعى مصر للتخلص منها.
فلديا حكايات كثيرة عن معضلة «عدم وفاء مسئولى الدولة بتعهداتهم» اختار منها اليوم حكاية تجسد مدى تعمق تلك الظاهرة التى لا نعرف ما سببها، هل سوء فى الإدارة؟ أم تحكم البيروقراطية الحكومية فى كل شىء، وغياب الرؤية؟ أم أن هناك أسباباً أخرى لا نعرفها تحتاج إلى بحث ودراسة دقيقة ومتعجلة!
فتصريحات كبار مسئولى الدولة، وعلى رأسهم المهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء، تؤكد - ليل نهار - أن الحكومة تعمل على إزالة كل المعوقات أمام الاستثمار فى مصر، لإنعاش الاقتصاد، والقضاء على البطالة، وخلق فرص استثمارات حقيقية، فى حين أن الواقع مغاير تماما، ويؤكد أن الروتين ما زال يقوض الاستثمار فى مصر، وأن «وزارة» و«هيئة» الاستثمار  هما المعوق الاول لبرنامج الرئيس الهادف إلى نهضة اقتصادية تحقق الاكتفاء الذاتى للمصريين فى كل المجالات.
أغرب تلك الشكاوى بطلها مستثمر سورى، يقيم فى مصر منذ أكثر من ثلاث سنوات، يمتلك مصنع ملابس مرخص، يعمل به ما يزد على 350 عاملاً مصرياً، يخصص كل إنتاجه للتصدير، أراد المستثمر أن يتوسع بإقامة مصنع آخر يكون إنتاجه أضعاف إنتاج مصنعه القائم، إلا أنه فوجئ بالعاملين فى «وزارة» و«هيئة» الاستثمار يخبرونه أنه غير مسموح له بالاستثمار فى مصر! وأنه يجب عليه مغادرة البلاد فورا، لأنه يقيم بشكل غير قانونى!
تقدم المستثمر لهم بجميع الأوراق الثبوتية التى تؤكد أن موقفه سليم، وأنه دخل البلاد وأقام مصنعه بشكل قانونى وشرعى، وأنه ليس له أى نشاط سياسى، لا فى مصر ولا حتى فى سوريا (قبل أن يأتى مصر)، وأنه لا يفهم فى الحياة سوى فى الصناعة وتجارة الملابس.
ورغم ذلك، رفضت جميع طلبات وتظلمات وضمانات المستثمر، التى قدمها للهيئة العامة للاستثمار، ولم تثمر شكواه عن أى تقدم لحل المشكلة الغامضة، ولم يجد أمامه سوى الروتين القابع داخل «هيئة الاستثمار» وردها الوحيد عليه كان: «فوت علينا بكرة يا سيد»، بنفس طريقة الفنان الراحل رأفت فهيم فى البرنامج الإذاعى الشهير «همسة عتاب».
وبنظرة مقربة على هذا المستثمر  ــ النموذج لحالات أخرى مشابهة ــ سنجد أنه مستقر فى مصر منذ 2011، متزوج ومقيم فى القاهرة، وله مصنع ملابس أطفال مرخص، وشريك فى شركة أخرى، مرخصة أيضًا، ولديه شقة تمليك، وكل التقارير الأمنية عن هذا المستثمر ونشاطه تؤكد أنه حسن السير والسلوك. لكن قيل لهذا المستثمر  إن سبب رفض «هيئة الاستثمار» أعطاؤه ترخيص المصنع الجديد أنه أثناء دخوله مصر حاول التقدم بالحصول على الإقامة من خلال شركة وهمية ليس لها وجود فى الواقع (وهو أمر غير حقيقى بحسبه).
المستثمر السورى يحاول الآن وبشتى الطرق أن يشرح حقيقة موقفه لجميع الجهات المعنية، لكن ومنذ شهر أكتوبر الماضى وحتى الآن، لم يحصل على رد غير: «طريقك مسدود وعليك أن تغادر البلاد فورا».
تلك الواقعة، بملابساتها، لا أعتقد أنها مشجعة على إقبال المستثمرين لمصر، فمَن هذا المستثمر الذى يقرر أن يأتى إلى بلد ممكن فى أى لحظة أن يصبح طريدها، بعد أن ينشئ مشروعاته ويفتح له، ولآلاف المصريين العاملين فى هذه المشروعات، باب رزق جديد، مَن هذا المستثمر الذى يرتضى أن يلف «كعب داير» على مكاتب الدولة من أجل أن يثبت أنه لا علاقة له سوى بالاستثمار.
الحرص على الدولة ضرورى، وأمن البلد فوق أى اعتبار، ولكن لا يجب أن تطيح الدولة بتعهداتها للمستثمرين من أجل أمور يمكن أن تعالج بإجراءات فيها إبداع ومرونة، ووضع ضمانات أخرى تتخذها الدولة مع المستثمرين، بحيث توفر للوطن أمنه وسلامته، وفى نفس الوقت تحرص على ألا تضر إجراءاتها «الاقتصاد المصرى» الذى نحاول جاهدين أن ينهض.
فتخيلوا معى، هذا المستثمر إذا تم ترحيله وأغلق مصانعه، هل سيطلب من أصدقائه ورجال الأعمال الذين يريدون أن يستثمروا فى مصر أن يحضروا؟
أشك فى ذلك.