السبت 20 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
أحمد بهاء الدين وخيبة الصداقة!

أحمد بهاء الدين وخيبة الصداقة!






عشت أجمل اللحظات والساعات وأنا غارق بين مقالات الأستاذ الكبير «أحمد بهاء الدين» أثناء إعدادى كتابا عنه صدر فى سلسلة الكتاب الذهبى هو «أحمد بهاء الدين وروزاليوسف.. مقالات لها تاريخ».
لقد بدأ «بهاء الدين» الكتابة الاحترافية عام 1947 فى مجلة «الفصول» لصاحبها ومؤسسها الأستاذ الكبير «محمد زكى عبد القادر»، ثم بدأت رحلته فى «روزاليوسف» عام 1952 ثم «صباح الخير» وبعدها عشرات الصحف والمجلات، وطوال تلك السنوات كلها ملأ «بهاء» حياتنا بكل ما هو جميل ومضىء ونبيل من المقالات!
 لم يترك «بهاء» مجالا إلا وكتب فيه باقتدار وأستاذية وعمق وبساطة لا حدود لها، من السياسة والاقتصاد والفكر إلى الحب والمرأة والمشاعر والصداقة بين الرجل والمرأة، والمثير للدهشة أن هذه المقالات المكتوبة والمنشورة من عشرات السنين - نصف قرن مثلا - عندما تقرأها الآن فكأنك تقرأها للمرة الأولى.
من المقالات التى توقفت أمامها طويلا مقال عنوانه «صداقة» كتبه عام 1958 فى مجلة «صباح الخير» يقول فيه:
«ليس أقسى من خيبة الحب إلا خيبة الصداقة، ذلك أن الصداقة تقوم على عنصرين «العقل والعاطفة» فى حين أن الحب كثيرا ما يقوم على العاطفة وحدها، فضلا عن أن الصداقة أوسع أفقا من الحب، فالحب يقترن برغبة الامتلاك والاحتكار والاستئثار، فى حين أن الصداقة تقبل المشاركة وتتسع لها!
ولا أذكر أننى عرفت صديقا ثم خسرته، وخسارة الصديق شىء أعتبره من الأحداث الجسيمة فى حياتى التى تحزننى وتؤلمنى زمنا طويلا، وقدرتى - ولها قدرة أى إنسان - على نسيان الحب أقوى من القدرة على نسيان الصداقة، فالحب له فى النفس مكان واحد وحيد! يمكن أن يملأه إنسان جديد، أما الصداقات فمكانها فى النفس أوسع متعدد متنوع، وفراغ مكان كان يشغله صديق لا يملؤه بالضرورة أى صديق آخر!
والأسباب النفسية التى تدفعنى عادة إلى التمسك بالصديق والتسامح معه والحزن العميق على فقده كثيرة، فأنا أعتقد أن الصداقة مسئولية لا مجال للتهرب منها، هل تقول إنه ليس أخى؟! ثم ينتهى الأمر بالنسبة إليك؟ كلا بالطبع ولكنك تحاول أن تقف معه وأن تخفف عنه حتى السجن! إذا ذهبت به جريمة إلى السجن، وكذلك الصديق حتى إذا سقط لا يمكن بتر صداقته والنفس مستريحة، ولا بد من مواصلة الوقوف بجانبه والتخفيف عنه بقدر المستطاع!
والسبب الثانى هو أننى أقبل صداقة الصديق غير مخدوع فيه، بمعنى أننى لا اشترط فى صديقى أن يكون كاملا أو على هواى بالضبط، لأن الكامل غير موجود، ولأن الناس غير متطابقين، إنما أعرف صديقى وأحبه وأنا عارف بعناصره وقوته وضعفه، بنواحيه الإيجابية والسلبية بما يستطيعه وما لا يستطيعه، ولذلك فقلما أكتشف بعد ذلك فى الصديق شيئا كنت لا أعرفه فى حين أن الإنسان إذا رسم لصديقه صورة بطولية باهرة غير حقيقية فإن هذه الصورة تكون قابلة للكسر بسهولة!
وليس من عناصر الصداقة الأساسية عندى الاتفاق التام فى الرأى والعقيدة، ومن بين أعز أصدقائى من أخالفهم فى الرأى خلافات أساسية، صحيح أن اتفاق الرأى والعقيدة يجعل الصداقة أقوى وأصلب، ولكنه لا يجعلها على الدوام أعمق، بدليل أن الإنسان لا يحب عادة كل من يوافقون رأيه، فقد يكون هناك من توافقه على رأيه ولكنك تجده ثقيل الظل، أو لا تقر بعض أخلاقياته، فهو ليس بصديق إنما المهم فى حالة اختلاف الرأى أن تكون نقطة البدء واحدة فى نفس الصديقين: وهى الأمانة مع النفس والرأى وعدم الخداع!
ويمضى الأستاذ «بهاء» قائلا: ومنذ أسابيع وأنا أعيش فى خيبة الصداقة، والسبب بسيط ولكنه كافٍ لأن ينسف أى صداقة، وهو أن صديقى هذا لم يفهمنى! قد أكون أنا المسئول عن عدم فهمه لى وقد يكون هو المسئول ولكن النتيجة واحدة: إن عدم الفهم هو اللغم الذى ينسف أعمق الصداقات!
إن فى طبيعتى عيبا غريبا حاولت عبثا أن أتخلص منه ولم يفهمه صديقى تماما هو أننى لا أدلل أصدقائى، والحقيقة الواقعة أن أغلب الناس يحبون التدليل على درجات مختلفة بالطبع، ومنهم من يحب من صديقه أن يسمعه دائما عبارات المدح والتقدير والإعجاب مخطئا كان أو مصيبا، ظالما أو مظلوما! لا يجب أن تنتقده أو تؤاخذه أو تصدمه فى بعض ما يصنع ويفكر ويحس، هذا النوع عند التحليل العميق تجد أنه لا يبحث عن أصدقاء إنما يبحث عن جمهور.. جمهور يضحك له إذا كانت مهزلة ويبكى إذا كانت مأساة وكفى!
وأنا لا أحب هذا النوع من الصداقة بل إننى على العكس، كلما توثقت صداقتى بإنسان، كلما أحسست بقلة حاجتى إلى مجاراته ومجاملته ولعلنى أخطئ أحيانا فأبالغ فى ذلك، ولكننى على أى حال لا أحب الصداقة التى تحتاج إلى مجهود نفسى من المجاملة والشكليات والإغضاء، إن مثل هذه الصداقة كالنار الخافتة الخائرة التى لا تظل مشتعلة إلا بقدر ما تهوى عليها وتنفخ فيها، إذ ليس فيها عناصر الاشتعال الذاتية المستمرة!
إن مثل هذه الصداقة كالزواج الذى ينقصه الوفاء، فيستعيض الزوجان عن الوفاء الحقيقى بالوفاء الشكلى بالكلمات المعسولة والإكثار منها، وكل الكُتاب الاجتماعيين ينصحون الزوج والزوجة أن يكرر كل منهما لزميله «أنا أحبك» عدة مرات فى اليوم، ولكننى لا أؤمن بهذا، بالزوجة التى ترى حب زوجها لها فى كلمات ولا تراه فى جهد حقيقى يبذله من أجلها وإذا حدث واقنتعت به نظريا فإننى لا أستطيع أن أصنعه، إننى أؤمن بالموضوع لا الشكل بالحقيقة الحية غير المزوقة لا بالصورة التى فيها من الرءوس أكثر مما فيها الأصل!
انتهى الدرس البليغ للأستاذ بهاء ومعه حق فما أقسى خيبة الصداقة!