الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«عطا» يكشف المنتحرين فى «حافة الكوثر»

«عطا» يكشف المنتحرين فى «حافة الكوثر»






حين تطالع عنوان رواية الكاتب على عطا «حافة الكوثر» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية سيأخذك حتما إلى أفكار مختلفة، فالكوثر كما تقول كتب التفاسير المختلفة إنه نهر فى الجنة بياضه أشد من اللبن والثلج وطعمه أحلى من العسل وحافتاه من الذهب واللؤلؤ وحوله أكواب أكثر من عدد النجوم، ولكنك تفاجأ أن هذا الكوثر - النهر- مصحة فى المعادى لعلاج المرضى النفسيين الذين يعانون ويتألمون، وهم من كل طبقات وفئات الشعب؛ أطباء وضباط وقضاة وأدباء ومعلمين ومهندسين وطلاب ورجال ونساء وشباب. وهنا تكمن المفارقة اللفظية للعنوان حتى يكتشف القارئ مفارقة الموضوع بعد قليل، فبطل روايتنا حسين الصحفى، دخل هذا الكوثر ثلاث مرات و بمعدل 31 يوما كى يعالج من الاكتئاب، الذى قد يؤدى فى النهاية إلى الانتحار، فضلا عن المشاكل الاجتماعية والأسرية التى يسببها هذا المرض، وذلك  نتيجة لضغوط الحياة التى لعبت فيه الزوجة الأولى دعاء مستجاب دورا كبيرا، وواصلت الزوجة الثانية سلمى السكرى  وأمها الضغط عليه من أجل أن يعلن هذا الزواج ولكنه يأبى، فظروفه الأسرية لم تكن تسمح، يقول حسين مؤكدا الأزمة التى يمر بها بسبب زوجتيه: «دخولى الكوثر للمرة الثانية، حدث بعد تزايد ضغطها من أجل أن أخبر دعاء بأمر زواجنا، وعندما أبلغتها برفضى، قالت: طلقنى غيابى».
كما أكد  الكاتب على عطا  أن المكان الذى يسكن فيه وضيع عليه تحويشة العمر تحول بفعل الإهمال إلى مكان يشبه ( الخرابة) المملوءة بالقمامة رغم أنها تنتمى لاسم تاريخى مهم وهو الخلوتى العابد الزاهد، وأصيب بالمرض بعد أن تحولت كل الفيلات التى حولهم إلى عمارات شاهقة سدت عنهم الشمس والهواء وأصابتهم حتما بالضيق الشديد، فأقرب عمارة لهم كانت مبنية على أرض خاضعة للأوقاف ومن ضمن ممتلكات الدولة، ويقول الراوى عنها ص 38: «بين جبال من مخلفات البناء وتلال من القمامة، تقع العمارة التى أسكن فيها، منتهى تعبى من أجل سكن لائق، سد أنفك وأسرع الخطى»، وبنيت بالطبع العمارة على تلك الأرض نتيجة للفساد المستشرى فى المحليات وبعض القطاعات فى  أجهزة الدولة.
وتحذر الرواية من مغبة الأسباب الكثيرة التى تؤدى لانتشار المرض النفسي، الذى يصل أحيانا لنسبة تزيد عن 10% فى كل المجتمعات والتى ربما تزيد عن ذلك، والغريب أنها تؤدى إلى مخاطر نفسية واجتماعية واقتصادية تفوق بكثير الأمراض الجسمانية الأخرى، وأشار الكاتب بذكاء ص 16 و عدة مرات إلى أزمة سعاد حسنى التى يتوقع أنها أصيبت بالاكتئاب، الذى أدى فى النهاية إلى انتحارها فى فرنسا وأنها لم تقتل أو تسقط من الشرفة كما أشيع، و أشار إلى موتها فى ذكرى ميلاد عبد الحليم والذى صادف الذكرى 72 لحليم، والسؤال هل حدث ذلك صدفة؟ فالكاتب ترك تساؤلا كبيرا، تكرر عدة مرات خلال الرواية، وحتى كلما ذكر الشاعر صلاح جاهين وصدى أغنية «بانو بانو»، و يظهر الأمر نفسه جليا حين أعاد ذكره ص 68، حين أكد أن بعض العقاقير مضرة أكثر من نفعها، فيقول: «رأيت سعاد حسنى تضحك وهى تغنى هناك مع صلاح جاهين: «الحياة بقى لونها بمبى، و أنا جنبك و أنت جنبى»، فيما كانت داليدا تستمع إليهما، وهى عارية من أية ملابس» وهنا يستدعى المؤلف انتحار داليدا الذى لا لبس فيه ويؤكد على انتحار سعاد حسنى.
والرواية تضع يدها على أزمة خطيرة قد تواجه المجتمع المصرى الذى لا يعترف كثيرا بالمرض النفسى ويصنفهم بالمجانين وينبذهم ويتركهم وحدهم يعانون مصيرهم وكأنهم هم الذين أحضروه لأنفسهم، و لم تقم الأسر و الظروف الاجتماعية والاقتصادية بدور السبب الرئيس فى ذلك،  كما حدث فى الرواية للبطل و لكل شخصياتها التى تتواجد فى المصحة / الكوثر، فالشاعر يعانى وكذلك الطبيب والضباط وحتى مدير الكوثر نفسه لم يسلم من الأذى، فمن المسئول؟ وتلك المؤسسات مهددة بهدمها والاستيلاء على أماكنها لبناء أبراج، ورمى مرضاها فى الشوارع، فمن ينقذ هذه المؤسسة العلاجية المهمة فى المجتمع وأحسن الروائى على عطا أن حذر من ضياع تلك المؤسسات، والجميل أن الرواية انتهت و لم يتم هدم الكوثر، فأين سيذهبون هؤلاء المرضى إذن؟ فالرواية كانت ستواجه عقدة جديدة قد تصلح لرواية ثانية أو جزء ثان.
واعتمد  الروائى على عطا فى السرد على تقنية الرسائل بينه وبين  صديقه الطاهر يعقوب و ذلك من خلال الرسائل الالكترونية كى يعطى نفسه مساحة كبيرة للدخول والخروج داخل سياق السرد فى أية لحظة يريدها ومع أى حدث جديد، ومارس التقنية نفسها مع عدد آخر من الشخصيات مثل صديقه الأديب سميح جرجس المهاجر إلى هولندا، والذى لم يأخذ حقه و الشاعرة مى عبد الكريم وزوجته الثانية سلمى، وكان ذلك بمثابة الحكى من الراوى للمخاطب، كى يحاول أن يبعد عن القارئ فكرة أن ما يقرأ سيرة ذاتية أو ينتمى لأدب الاعتراف وقد أكد الكاتب تلك المعلومة على لسان بطل الرواية حسين حين قالت له زوجته أن ما يكتبه يمسه ولكنه أكد بالنفى تماما.
 وختاما استطاع الكاتب على عطا  فى نهاية الرواية أن يفضح المجتمع كله، الممثل فى شخصيات الكوثر/ المصحة النفسية الكائنة فى المعادى، وبعدد لا بأس به من الحكايات والنقائص التى تكشف عورات  المجتمع، وأعطته الكوثر المبرر الكافى  ليكشف لنا كل الفضائح؛ من رشوة و فساد مالى وزنا محارم  ومخدرات ومخالفات كثيرة تحتاج للتصدى والوقوف أمامها، و الحيلة التى لجأ إليها والحجة المهمة  أنه ليس على المريض حرج  وليس على من يسكنون الكوثر - بالطبع- أى حرج!!.