الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
سنة أولى تليفزيون!

سنة أولى تليفزيون!






الذكريات القديمة لا تنسى، لكنها تظل راقدة ونائمة ومنسية فى مكان ما من عقلك حتى تأتى لحظة غير متوقعة فتستعيد كل هذه الذكريات دفعة واحدة وكأنها حدثت منذ أسابيع!!
وما أكثر الذكريات - ذكريات الطفولة المبكرة - التى خرجت وأطلت فجأة منذ بدأت فى متابعة قناة «ماسبيرو زمان» التى ولدت منذ شهور، ولابد من تحية وشكر كل من فكر فى تأسيس هذه القناة التى تعرض تراثًا بديعا ورائعا عشنا معه أيامًا لا تنسى من مسلسلات وبرامج ولقاءات زمن الأسود والأبيض، قبل ظهور التليفزيون الملون!!
أطفال هذه الأيام لم يعيشوا فرحة دخول التليفزيون إلى بيوتهم كما عشناها نحن الأطفال، قبل خمسين عاما بالضبط اشترى أبى تليفزيون «باى» بقسط شهرى خمسة جنيهات، من «بيع المصنوعات»، ومن شدة خوف أبى على هذا الكنز العجيب الذى يتحدث عنه كل زملائه فى الشغل، قرر أن يشتريه، وزيادة فى الحرص طلب منى الذهاب لموقف الحناطير وإحضار حنطور نركبه ومعنا العزيز الغالى «التليفزيون».
ظن سائق وصاحب الحنطور إننا من الأثرياء وأغنياء البلد بدليل شراؤنا التليفزيون فطلب أجرة ثلاثة قروش نظير توصيلنا بدلا من قرشين وفشلت كل محاولات أبى لدفع قرشين بدلا من ثلاثة.. وطوال الطريق كان أبى حريصا أن يطلب من صاحب الحنطور أن يمشى ببطء وعلى مهله ليس خوفا على حياتنا - أبى وأمى وأختى الصغيرة - بل خوفا على حياة التليفزيون الذى وضعه أبى بجواره بكل حرص وعناية.
وعندما وصل الحنطور إلى أول الشارع، كان العشرات من أهل الحى فى انتظارنا وانطلقت زغاريد نساء الحى تعلن عن فرحتها وتهنئتها لنا بشراء التليفزيون، فقد كنا أول أسرة تشتريه فى الحى كله.
وباحترام شديد دخل التليفزيون إلى البيت وكان فى انتظاره ترابيزة أنيقة فوقها مفرش مشجر تكلف صنع الترابيزة عند نجار رفيع المستوى خمسة وعشرين قرشا، وعندما علمت أمى بهذا السعر الغالى قالت: «الدنيا بقت نار والأسعار نار»!!
وتوالى وصول الجيران لتهنئتنا بهذا الحدث الجلل ومعهم أطفالهم، جلس الكبار على أكثر من «كنبة» وجلسنا نحن الأطفال على الأرض فوق سجادة يدوية مصنوعة من بقايا الملابس التى لم يعد لها لزوم أو ضاقت علينا!!
الكبار والصغار تسمرت عيونهم على شاشة التليفزيون بعد أن قام أبى بتشغيله.. فى البداية ظهرت شاشة سوداء ثم سرعان ما بدأ السواد فى الزوال ليحل محله اللون الأبيض، وبعدها يظهر رجل أبيض الشعر يتحدث عن أنواع الأسماك وكيف تعيش فى أعماق المحيطات والبحار ومتى تهاجر من مياه إلى مياه أخرى وكيف تتكاثر!! وعلمنا فيما بعد أنه الرائع الدكتور «حامد جوهر» وبرنامجه الأروع «عالم البحار»، ثم جاء مسلسل أو تمثيلية  لا أذكر اسمها الآن!!
وانتهى الاحتفال وغادرنا الجيران سعداء مسرورين لرؤية هذا الصندوق العجيب وما يجرى فيه من أشياء وأحداث.. وبدأ أبى يصدر تعليماته الصارمة: لا أحد يقترب من التليفزيون حتى لا يتكهرب!! ممنوع تشغيله فى غيابه حيث إن تشغيله سر من الأسرار!! والفرجة عليه يوم واحد فى الأسبوع وهو يوم الجمعة حيث الإجازة من المدرسة، وفى هذا اليوم غير مسموح إلا بمشاهدة ماتش الكورة الذى يتولى وصفه العبقرى الكبير الكابتن «محمد لطيف».
ولا تنتهى أجمل ذكريات العمر مع ذلك الكائن السحرى العجيب أقصد التليفزيون العربى كما كان يسمى فى تلك الأيام!!