السبت 20 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
د.طه حسين يعترف: مصر كلها أكبر من أهلها!

د.طه حسين يعترف: مصر كلها أكبر من أهلها!






وقعت فى غرام الدكتور «طه حسين» عميد الأدب العربى منذ قرأت له كتاب «الأيام» ــ الجزء الأول ــ الذى كان ضمن المناهج الدراسية فى المرحلة الإعدادية!! هذا الغرام والعشق دفعانى فيما بعد لقراءة الجزء الثانى والثالث من «الأيام».
وكبرت ونضجت وعرفت الطريق إلى روائعه الفكرية والأدبية وعلى رأسها «المعذبون فى الأرض» و«أحلام شهر زاد» و«مستقبل الثقافة فى مصر».
وما أكثر المقالات المجهولة والمنسية التى كتبها د.طه حسين فى عشرات الصحف والمجلات ومحاضراته التى كان يلقيها سواء عبر الإذاعة أو الجامعة المصرية أو الأمريكية أو الإذاعة ورغم مرور كل هذه السنوات الطويلة على كتابتها أو إذاعتها فلا تزال حية نابضة بالحياة.
ولهذا يستحق زميلى وصديقى الكبير الصحفى المبدع الأستاذ «إبراهيم عبدالعزيز» كل التقدير والشكر لجهده فى البحث عن هذا التراث وإعادة نشره بما يليق من حفاوة فى أكثر من كتاب منها «مصر فى مرآتى».
ومن أهم المقالات وأجملها وأكثرها دلالة مقال بعنوان: «الثوب الضيق» الذى كتبه ونشره عام 1948 ــ أى منذ 69 سنة بالضبط ــ وكان بمثابة قصيدة حب صادقة فى مصر وعظمة مصر وجاء فيه:
لم ألق قط أجنبياً زار مصر ملماً بها أو مقيماً فيها إلا تحدث إلى بجمال هذا البلد وما فيه من فتنة للعقول والقلوب وبفقر هذا البلد وما فيه من بؤس يملأ النفوس حزناً وألماً وإشفاقاً.
وما أكثر ما يخيل إلىّ فى هذا الأيام أن الحياة المصرية الحديثة أشبه بالثوب الضيق البالى الذى لا يسترجم صاحبه كله والذى لا يقدر على أن يقاوم ما قد يكون لصاحبه من حركة أو نشاط فصاحبه لا يبسط جداً أو يمد ذراعاً ولا يأتى حركة ما إلا تمزق من ثوبه هذا الجزء أو ذاك وظهر من جسمه هذا الموضع أو ذاك!!
هذه هى الحياة المصرية مضيقة جداً مهلهلة جداً وقد فرضت على بلد عظيم كريم موفور الحظ من الحركة والنشاط والطموح!! وما رأيك فى بلد لم يخلق للبؤس ولا للفقر وإنما خلق للثراء والرخاء يشهد بذلك نيله المتدفق وتشهد بذلك أرضه الخصبة وأهله مع ذلك جائعون عارون مرضى لا يأمن شر الجوع والعرى والمرض منهم إلا الأقلون!! أليس هذا يدل على أن الثوب المادى لمصر ضيق أضيق من أن يسبها ومن أن يستر من جسمها ما ينبغى أن يظل مستوراً ويخفى من ضرها ما ينبغى أن يظل خفياً!!
ومصر بلد لم يخلق للضعة ولا للصغار ولا للهوان تشهد بذلك إثارة القائمة التى تصور تاريخه مجيداً ويشهد بذلك ما تحدثت به الأجيال عن مصر على اختلاف العصور ويشهد بذلك احتفاظها بشخصيتها منذ عرفت نفسها ومنذ عرفها التاريخ إلى الآن على كثرة ما أصابها من المحن والخطوب!!
ومصر بلد لم يخلق للفوضى ولا للاضراب ولا للفساد يشهد بذلك أنه سبق إلى ابتكار النظم السياسية وعاش فى ظل هذه النظم قروناً وقروناً وقروناً وتعلمت منه الشعوب فى العصور القديمة نظم السياسية والاجتماع وكان من قل بلاد الأرض ميلاً إلى العنف والاضطراب الذى يفسد النظام وهو الآن يحيا حياة أقل ما توصف به إنه بعيدة كل البعد عن الاستقرار أهله جميعاً ساخطون قلقون بعضهم يظهر الشكوى وأكثرهم يسرها ويخفيها وأنظر إلى المرافق العامة وإلى الموظفين الموكلين بها ثم حدثنى أترى نظاماً وهدوءاً واستقراراً أم ترى اختلاطاً واضطراباً وفزعاً وجزعاً؟!
ومصر بلد لم يخلق للجهل يشهد بذلك أنه سبق إلى ابتكار العلوم والفنون وأنه حمى الحضارة الإنسانية مرتين مرة أيام البطالمة فى العصر القديم ومرة أيام المماليك فى القرون الوسطى! فانظر إليه الآن وإلى عدد القارئين والكاتبين من أهله وإلى هذه المدارس والمعاهد ضيقة من جهة ولأن العلم يباع بالمال وأكثر المصريين لا مال لهم من جهة أخرى!!
ويمضى د.طه حسين قائلاً فى مقاله الممتع: «والتمس ما شئت من وجوه الحياة المصرية فسترى بلداً عظيماً كريماً له ماضى مجيد وقد ملئت نفوس أهله بالآمال العراض التى تلائم هذا الماضى المجيد وليس منهم إلا من يتصور المستقبل المصرى على أنه يجب أن يكون مجيداً كالماضى  المصرى ولكنهم على ذلك لا يقومون إلا ليقعدوا ولا ينشطون إلا ليخمدوا ويستيقظون إلا ليناموا!! فكيف تفسر هذا كله؟! وكيف تخرج مصر من هذا كله ثانيا؟!
أما تفسيره فيسير وهو أن مصر كلها أكبر من أهلها وأجدد أن يسكها جيل من الناس يقدر حقها وأملها وتاريخها ويلائم بين هذا كله وبين سيرته! مصر أكبر من أهلها وأكبر من هذا الثوب الضيق البالى الذى فرض عليها والذى لا يستر من جسمها إلا أقله وأيسره ثم لا يكاد يستر هذا الجزء القليل اليسير لشدة ما أصابه من البلى!!
وأما السبيل إلى إخراج مصر من هذا كله وردها إلى ما يلائمها من الحياة التى تسعها فيسير أيضاً.. وأى شىء أيسر من أن تنزع ثوباً بالياً ضيقاً لتلبس مكانه ثوباً جديدا فضفاضاً جميلاً.. هذا شىء يسير، يسير كل اليسر لا يحتاج إلى أن تجد هذا الثوب الجديد فمتى أو كيف يتاح لمصر أن تجد هذا الثوب الجديد الفضفاض الجميل؟!
انتهى مقال د.طه حسين ذلك العبقرى الذى أبصرنا بعينيه!!