الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الديمقراطية التليفزيونية!

الديمقراطية التليفزيونية!






أى اختراع بشرى يمكن أن يكون «نعمة» أو «نقمة»!
وهذا هو بالضبط ما أشار إليه الأديب الكبير «د. يوسف إدريس» فى مقاله الشهير «ملعبة التليفزيون» ويعقد مقارنة بين ما يشاهده هنا وما يشاهده فى الخارج والفارق الهائل بينهما فيقول:
فى كل مرة أذهب إلى بريطانيا ودائما أوقت ميعاد وصولى يوم السبت لأستريح فى عطلة الأسبوع ثم أبدأ فى قضاء مصالحى يوم الاثنين بداية الأسبوع، كنت لا أكاد أجلس فى حجرتى فى الفندق وأفتح الجهاز حتى أكاد أتسمر بجانبه ولا أريد أن أتحرك، ذلك أن فى كل برنامج أتعلم منه شيئا ممتعا جديدا! وأعرف منه بتسلية عظمى، ما لم أكن  أبدا أعرفه! وأرى أشياء كنت أسمع عنها وطالما حلمت برؤيتها رأى العين! حتى إننى كنت لا أغلق التليفزيون حين يتحول الإرسال إلى ما يسمونه «جامعة الهواء»، حيث تدرس مواد الرياضة البحتة والطبيعة والكيمياء والذرة والفلك بكل ما تحمله من صعوبة وتعقيدات بطريقة تليفزيونية مرسومة ومسهلة، بحيث يمكن لأى كائن، فما بالك بمن لديه الحد الأدنى من المعرفة أن يتابعها ويستوعبها ويستمتع بما أضيف إليه من معارف ممتعة!
أقسم أنى رغم ولعى شديد بالخروج، كنت لا أغادر الغرفة طوال كل عطلة نهاية الأسبوع لأنى لم أكن بصراحة أستطيع قطع متعة المشاهدة الممتعة المفيدة!
ويضيف الدكتور «يوسف إدريس»: نحن إذن قد استوردنا آلات وبرامج مصكوكة ولم نفعل الشىء الذى يجب أن نكون قد قمنا بفعله قبل استيراد تلك المعدات والأدوات والبرامج، وهو أن يكتشف مادتنا التليفزيونية نحن، نفننها ونقدمها ونطورها ونتعلم كيف نفننها أكثر ونطورها أكثر وأكثر!
كان علينا أن نتقى ونحضر «كادرا» من فتيان موهوبين يدرسون ما فعله صناع البرامج الممتازة فى التليفزيونات الأخرى، ثم يتعلمون كيف يقدمون المقابل العربى الصالح والشاحذ والمنبه للعقل العربى بكل مكوناته وأجياله ويكتبون النصوص، لا أقول ذات القيم الأخلاقية الرفيعة كما يقول عتاة «المتفيقهين» ولكن تلك التى تستلهم قيمنا وتراثنا وحاضرنا وتصنع منها «فنا» تليفزيونيا حين نشاهده يدفعنا إلى كل ما هو أرفع وأمتع وأنفع!
وأحسب أننا قد استوينا من برامجنا المستوردة، وآن الأوان لننتج نحن برامجنا، وهى ليست برامج استعراضية أو ترفيهية أو مكلفة، إنها أبسط من هذا بكثير، إنها برامج حية وبسيطة يشترك فيها المواطنون جميعا، يناقشون مشاكلهم «تقريبا ربع برامج التليفزيون البريطانى مخصصة لمشاكل المدارس والتلامذة وأولياء الأمور والمدرسين وأوجه التقصير من كل حى أو بلد على حدة، بل أحيانا من كل مدرسة» مناقشة أى قضية عامة يختلف أو يتفق فيها المجتمع مع وجهة النظر الرسمية أو غير الرسمية!
باختصار حولوا التليفزيون هناك إلى مجلس شعبى ولمصلحة الشعب ومهرجان شعبى وأداة شعبية لمناقشة الشعب بأفراد من الشعب ولمصلحة الشعب، وبهذا وصلوا إلى ما يمكن تسميته بكل أمانة إلى الديمقراطية البرلمانية بجوارها، وكأنها مجالس سفسطائية، فالقوة الحقيقية والقرارات الحقيقية وحتى الانتخابات الحقيقية، وحلول المشاكل الحقيقية تأتى من التليفزيون، ومن الشعب الذى أحال التليفزيون من «لعبة» إلى جهاز جاد يجمعه فى بوتقة واحدة، ويضع السائل والمسئول والحاكم والمحكوم فى حيز واحد، وأمام أعين جمهور واع فاحص!
علمه التليفزيون كيف يعى ويكفى يفرق بين الزيف والحقيقة، ومباشرة ومن التو واللحظة يحكم ويكون حكمه فى معظم الأحوال عادلا وصادقا ونابعا من قلب الحقيقة والشعب!
ويتساءل د. يوسف إدريس: فمتى نحيل نحن العرب تلك الألعاب التليفزيونية إلى وسائل حضارية جادة تسوس حياتنا وتقومها وتدفعها إلى الأحسن والأرفع، أم سنظل كالأطفال فى أوروبا نستعمل التليفزيون والفيديو وسائل ألعاب وتضييع وقت ومراهقات فكرية وعاطفية وجسدية وحلقات درامية ما أنزل الله بها من سلطان!
بل الحقيقة إنه أنزل بها كثيرا من اللعنات التى للأسف تصيب أبناءنا البريئة وقلوبهم الخضراء والغضة وعقولهم التى ستنتهى فى الغالب إلى أو تصبح لا شرقية ولا غربية ولا أى «شيئية»!
وحتى لا تكون النهاية أن يقوم كل رب أسرة بأن ينهال تحطيما على جهاز عظيم نحيا فى عصره هو جهاز التليفزيون!
فمتى يحدث هذا؟! بالله عليكم وأرجوكم متى؟!
وما زال سؤال د. يوسف إدريس ينتظر الإجابة!