السبت 20 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
فتحى غانم: الأدب أصدق من السياسة!

فتحى غانم: الأدب أصدق من السياسة!






مازلت أعيش وأتأمل تجربة الكاتب الكبير فتحى غانم التى أطلق عليها «مغامرة التفكير الحر» بمد قيام ثورة 23 يوليو 1952، وأزمة العقل العربى الغائب أو المعطل والمجاعة الحقيقية فى الأفكار.. وعن ذلك كله كتب يقول:
حدث فى الخمسينيات والثورة تناقش قضية التنمية الاقتصادية وتخوض معركة الاستقلال مع الإنجليز أن ظهرت اتجاهات تنادى بالتخطيط وكان «عبداللطيف البغدادى» هو وزير التخطيط مما قد نفهم منه أن هناك أفكارًا مدروسة للتخطط تقوم على فلسفة اجتماعية واقتصادية معينة!
وحاولت أن أفهم ما هو المقصود «بالخطة» وكنت أكتب مقالات أشرح فيها الأفكار والكلمات السياسية التى يتداولها الساسة والمثقفون فيما بينهم، وقرأت عن تجارب فى التخطيط فى فرنسا وهولندا والاتحاد السوفيتى، فلاحظت أن كل مجتمع يتبنى التخطيط بفلسفة معينة ولتحقيق أهداف معينة، هولندا ضد الشيوعية وتتبنى التخطيط بفكر رأسمالى! والسوفييت ضد الرأسمالية ويتبنون التخطيط بفكر ماركسى! وفرنسا تتبع نظامًا للتخطيط تجميع فيه بين الاشتراكية والديمقراطية والسوق الحر!
وسألت نفسى ما هى فلسفة التخطيط وقد بدأوا يتحدثون عنها فى مصر؟ كان السؤال هو محاولة للتفكير، وبحثت عن دراسات أو مذكرات تفسيرية تشرح ما هو التخطيط بالمفهوم المصرى فلم أعثر على شىء! عندئذ كتبت مقالا افتتاحيًا فى مجلة «روزاليوسف» قلت فيه إننا لجأنا إلى التخطيط تحت شعار «الضرورة»! هناك أزمة فى تمويل المشروعات وأزمة فى الخدمات وأزمة فى الإدارة وصيحات تطالب بضرورة معالجة هذه الأزمات، لذلك نستطيع أن نقول إن حديثنا عن التخطيط هو «حديث ضرورة» إنه مطالبة بأن تتدخل الدولة لتعالج أزمة دون أن ترتبط نظرية أو فلسفة، والشىء الوحيد الذى أفهمه ويبرر تبنى أسلوب التخطيط هو «نظرية الضرورة»!
وكانت المفاجأة أن يتصل بى وكيل وزارة التخطيط وهو الخبير العالمى الدكتور «حلمى عبدالرحمن» وتقابلنا وسألنى أن أنضم إلى لجنة يفكرون فى تشكيلها لدراسة شئون التخطيط، واعتذرت لأننى غير مختص بالأمر، لكننى عرفت أن هناك «مجاعة أفكار» والجميع مشغولون بالأشخاص والمناصب واللجان، كما عرفت أن كبار الخبراء لا يفكرون ولا يريدون الاستقلال برأى، وأنهم حرصًا على تأمين أنفسهم من مغامرة التفكير يكتفون بتشخيص الأزمة وتوضيح أبعادها بدقة لكنهم لا يتدخلون برأى فى العلاج فى انتظار ما يراه القائد، خشية أن يقول أحدهم رأيًا فيرى القائد رأيًا آخر فتكون نهاية صاحب الرأى المرفوض!
ويروى الاستاذ «فتحى غانم» هذه الواقعة بالغة الأهمية والدلالة فيقول:
«وعندما كنت رئيسًا لتحرير «الجمهورية» فى عهد «عبدالناصر» طلبت من «على صبرى»- رئيس الوزراء أيامها - أن يساعدنى فى الحصول على مذكرات المشير عامر عن سوريا، فنظر إلى كمجنون لأنه من المستحيل أن يقبل المشير «التفكير» فيما حدث بصورة علنية تفتح الباب للناس لأن تفكر فى انفصال سوريا عن مصر وسقوط حلم الوحدة، ولو كان هذا الأمر فى أى بلد آخر لخرجت مئات الكتب والدراسات تبحث وتحلل كل صغيرة وكبيرة تمس حدث الانفصال من قريب أو بعيد! وكان المفروض أن يكون المشير «عامر» هو الشاهد الأول فى رواية وتقويم الأحداث».
ولكى تكتمل الصورة يروى «فتحى غانم» هذا الموقف الآخر فيقول.
وحدث ذات مرة أن دخلت فى مناقشة مع صديقى «أحمد بهاء الدين» حول مفهوم الاشتراكية فى مصر بعد أن أعلن «عبدالناصر» عن المجتمع الاشتراكى، وبعد قراءات مطولة وتفكير «حر» خرجت بمعنى واضح هو أن الاشتراكية هى «تدخل الدولة» وهنا اعترض «بهاء» على ما كتبته بهذا المعنى وقال لى بذكائه غير العادى إنه اعترض حتى لا يشجع السلطات على التدخل فى كل شئون حياتنا باسم الاشتراكية! هم لا يفهمون شيئا عن الاشتراكية وسوف يتمسكون بكلمة «تدخل» ويفرحون بها!
ولعل أهم ما فى شهادة «فتحى غانم» هو قوله بكل شجاعة «إن مطلبى منذ البداية هو أن أكون مفكرًا حرًا ولا شك أن الظروف السياسية والاجتماعية التى مررت بها ما كانت لتسمح بتنمية الفكر الحر الذى يحتاج إلى مناخ عام تسود فيه حرية الرأى على نحو ما زالت قيود كثيرة تمنع تحقيق هذا المناخ! لكننى مارست الفكر الحر بكل حريتى فى أعمالى الروائية.
إن الأدب أهم وأشمل وأصدق من السياسة»
انتهت شهادة الروائى الكبير فتحى غانم  صاحب روايات «الأفيال» و«حكاية تو» و«الجبل» و«المطلقة» و«الرجل الذى فقد ظله» و«زينب والعرش» والتى تصور كواليس ودهاليز الصحافة من صراعات ومعارك وانتهازية ووصولية ونفاق من أجل الكرسى وتبقى كلمة فتحى غانم: «الأدب أصدق من السياسة».