الخميس 11 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
أغنية قبل النوم ومشروع جديد فى جامعة روما

أغنية قبل النوم ومشروع جديد فى جامعة روما






تطلق قريبا مكتبة الوثائق بجامعة سابينزا فى مدينة روما الإيطالية وبالتحديد قسم الوثائق الصوتية والموسيقى مشروعا شديد الطرافة والخصوصية وهو الأغانى الشعبية والفولكلورية النوعية فى عدة حضارات واختارت بداية للمشروع إفراد دراسة خاصة عن أغانى الزواج والنوم والأغانى التى تقال فى أنشطة معينة وربما كان تركيز باحثين كبار فى قسم الموسيقى الشعبية على أغانى النوم.
وتعتبر أغانى النوم  طقسا موسيقيا قديما قدم التاريخ تمارسه كل الشعوب كل بأسلوبه وهو طقس موسيقى شديد الطرافة والجمال كلنا نحبه بل وكلنا نمارسه بشكل أو بآخر.... نعم فالنوم حالة بشرية يعتبر التهيوء لها طقسا من طقوس العرف والتقليد من هنا نشأت موسيقى النوم وليس غريبا أن موسيقى النوم تتمثل فى ما يعرف عندنا بأغنية قبل النوم أو كما تعرفها المعاجم (التهويدة) والتى اشتقت اسمها من فعل - يهدهد - وهو فعل يوصف به حالة الهز الخفيف التى تقوم بها للطفل الصغير حتى يواتيه النوم.
وكما تعتبر أغنية قبل النوم لونا موسيقيا يختلف من شعب لآخر على الرغم من تشابه موضوعاتها إلا أنها لا تخلو أى حضارة أو شعب من هذه التيمة الموسيقية الخلاقة التى بتناقلها الخلف عن السلف فهناك بعض الأغانى عمرها أكثر من ثلاثة آلاف عام لكنه بالطبع قد يطرأ عليها تعديلا من عصر إلى عصر بحسب الظروف الثقافية والاقتصادية والسياسية أيضا لشعب ما
تعرف أغنية قبل النوم  كمصطلح فى الحضارة الغربية ب (لولا باي) والتى حاول الكثير تفسير هذا المصطلح فلم يصلوا لنتيجة محددة فهناك البعض الذى أرجعها لأصول تركية من كلمة (بولو بولو) وهى تهويدة عمرها 1200 عام لكن الأرجح أن المصطلح يرجع لأصول آرامية قديمة جدا وأن أصل المصطلح هى الكلمة الآرامية (ليلث - آبي) والتى تعنى جنية الليل التى تخطف الأطفال وهذا ما يفسر أنه فى بعض الشعوب تعتبر الـ(لولا باي) أغنيه فيها شىء من التخويف للطفل حتى يتمثل للنوم.
تشكل القيم الصوتية وتنوعيات الصوت البشرى بالتحدد قيمة أساسية فى التهويدة أو أغنية قبل النوم بل ويشكل الصوت الخفيض الخارج من الحنجرة محورا رئيسيا لأنه يساعد الطفل على النوم بحيث يوحى له بالامتثال والهدوء.. وتؤدى هذه الأصوات مصاحبة للأغنية ذات الكلام القليل والممطوط بشكل طربى يستطيع الصوت العادى تأديته فهو ليس بحاجة لصوت عريض طربى لتأديته وهنا تكمن حكمه فلكلورية كبيرة وهى أن أى أم تستطيع تأدية هذا النوع من الموسيقى بصوتها لطفلها أو طفلتها الصغيرة.
يعتبر أطرف ما فى موسيقى التهويدات أنا تبين هذا التنوع والتباين بين الشعوب والثقافات بعضها البعض لكن على أية حال فإن الإطار الموسيقى لأغانى قبل النوم هو إطار مبسط وغير معقد من حيث الجمل اللحنية ويرجع ذلك أن الجمل المغناة نفسها أو الشعر الغنائى المكون لهذه النوعية من الأغانى - إذا جاز أن نطلق عليه شعرا - يعتبر بسيطا وغير معقد ويعتمد على تفعيلات قصيرة ومتلاحقة ولعلنا نضرب مثالا لنوضح للمستمع هذه الفكرة فمثلا التهويدة اليونانية الشهيرة (نانى نانى كالوس) والتى يعود تاريخ كتابتها للقرن الخامس قبل الميلاد تعتمد على وزن مبسط وقصير وهو الوزن الثلاثى أو (تروخايوس) وهو وزنا مكون من ثلاث تفعيلات مما يجعل إدارة الموسيقى سهلا وبسيطا نتيجة لبساطة التفعيلات نفسها أيضا هذه الخاصية تجعل من السهل تلحين هذه الأغانى الفلكلورية ويمكن ذلك بأبسط الطرق وهى النقر أو التصفيق الخفيف.
تعتبر التهويدة فى العالم العربى شديدة الطرافة من شرقه لغربه حيث تطرق موضوعات شديدة التشابه بل وأحيانا تجدها متطابقة مع اختلاف الألفاظ نتيجة لاختلاف اللهجات بالطبع، فمثلا نجد أن موضوعات التهويدة فى المغرب العربى والشمال الأفريقى كله تعتمد على إيهام الطفل بأن الطعام قيد الأعداد وأنه على وشك النضوج ويفسر باحثى الفولكلور هذه الظاهرة بتفسيرين أما أن الحالة الاقتصادية المتردية للبعض الأقاليم قد جعلت الجوع هو صنو النوم من هنا تأتى هذه الحالة الإيهامية للطفل حتى ينام أو لأن الطعام بدوره موضوعا محببا لدى الأطفال فتريد الأم أن تطيب مسامعه بأنواع الطعام الشهية.
فى المغرب العربى هناك تهويدة تسمى (نينى يا مومو) تطلب فيها الأم من الطفل أن ينام حتى ينضج العشاء وحتى أن لم ينضج عشاؤهم فلينام حتى ينضج عشاء الجيران مما يوحى بأن الأم توهم الطفل بأن هناك طعاما ينضج كما تعده بأنه حينما يستيقظ سوف يجد ما لذ وطاب فى الأوانى والأطباق وتقول مطلع هذه التهويدة (نينى يا مومو حتى يطيب عشانا وان ما طاب عشانا يطيب عشا جيرانا).
وهذا ما نجده أيضا فى التراث الأوروبى فنجد أن التهويدة الفرنسية الشهيرة (فى دودو) تطلب الأم من الأبن أن ينام لأنها تصنع الكيك وأن والده يصنع الشوكولا وان أخته تصنع الفواكه المطهية وهكذا تظل تعد له الحلويات اللذيذة حتى يأخذ النوم بجفونه.
لكن مسألة الطعام فى التهويدات العربية فى الجانب الآخر أى الشام والشرق الأوسط تقل بشكل ملحوظ فعلى حين تذكر الأم أنها سوف تذبح للطفل زوجين من طيور الحمام كما فى التهويدة المصرية (نام يا حبيبى نام وأدبحلك جوزين حمام) والشامية (يلا تنام ريما يلا تجيها النوم يلا تحب الصلاة يلا تحب الصوم) يكون التركيز على أمور أخرى وهى التأكيد على أن الطفل سوف يكون مؤمنا ويمارس طقوسه الدينية بجدية كما تذكر أيضا زيارة الأماكن المقدسة وقدرة الله وحب الناس.
لكن ليست التهويدة دائما تقال لأغراض تدليلة أو للنوم فقط فلقد اتخذت التهويدات فى أماكن كثره لونا سياسيا مثل التهويدة الفلسطينية والتى أصبحت تضم فيها الأم إلى جانب خصائص التهويدات المعروفة أصبحت تضم إليها خاصية التحسر على الشتات مثل التهويدة الشهيرة (بهليلك بهليلك) والتى تذكر فيها الأم حسرتها على فراق وتشتت الأحبه نتيجة للاستعمار والتهجير كما نجد أن التهويدة الفلسطينية الشهيرة (نامى نامى يا صغيرة يلا أغفى ع الحصيرة) تحمل فى طياتها الأمل فى الغد بالعودة والنصر وعودة الأرض المغتصبة.
لكن الأكثر ألما أن بعض التهويدات تحمل طابعا غاية فى الحزن والألم والتى من الممكن أن تكون مرثية فى شكل تهويدة أو نوعا من النواح والتحسر كما فى التهويدة الأرمينية الشهيرة (اورو نازي) والتى اشتهرت بتهويدة الطفل الميت لأن الام فيها تخاطب طفلا ميتا وكأنها تهدهده لينام فتقول له (لا تبكى يا صغيرى فأنا أبكى نيابة عنك لقد تجمد اللبن على شفاهك الباردة... لكنك الآن أكثر سعادة).
ولعل الباحثين فى الفلكلور يجدون ظهور هذه التهويدة بعد المعاناة التى عاناها الأرمن مع الأتراك أمرا طبيعيا وهكذا تلعب السياسة والنكبات دورا مهما فى تشكيل أغنية ماقبل النوم.
نعود مرة أخرى للبهجة حيث التهويدة التركية التى تسمى (داندينى دانديني) والتى تذكر فيها الأم للطفل كم هو جميل وأن الحناء تخضب يديه وكم يحبه والديه وأنها توصية بأنه حينما يذهب للحقل يحرص على ألا تأكل الحيوانات ثمار الحقل. وتعتبر هذه التهويدة على رغم قصرها إلا أنها من أمتع وأجمل التهويدات المعروفة سواء فى الشرق أو الغرب.
وفى أفريقيا السوداء تتخذ التهويدة شكل الأغنية القبلية وتوتمية وتصف فيها الأم حياة الحيوانات والأمومة لديهم ولعبهم ومرحهم كما أن التهويدات الأفريقية تتميز بطابع شديد الطرافة لأنها تتخذ من موسيقى الرقصات الشعبية إطارا لها وهى موسيقى إيقاعية تقترب كثيرا من موسيقى الطقوس والتوتم بل وموسيقى طرد الأرواح الشريرة.
قام الباحثون فى جامعة روما بجمع أكثر من 1200 تهويدة أو أغنية ما قبل النوم وتم تسجيلها وتصنيفها بأصوات وإيقاعات أصلية ويقوم فريق عمل كبير على وضع ترجمة دقيقة لها بلغات ثلاثة الانجليزية والايطالية والفرنسية وتضم المجموعة أغانى من مصر والعراق والصين وأقاليم روسيا وتركيا وأكثر من 70 دولة أخرى كما يضم فريق العمل متخصصين فى اللهجات والتاريخ والأدب الشعبى والموسيقى وفى خلال العام القادم سوف يكون هناك أرشيف متوافر ومتاح للدارسين من خلال مكتبتين وصالة كبيرة.