الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الفنطزية الفاطمية!

الفنطزية الفاطمية!






دائمًا ما أعود لقراءة الكتاب الواحد أكثر من مرة، وفى كل مرة أكتشف جديدًا لم أكن قد لاحظته من قبل وأندهش لهذا!
كتاب د.يوسف إدريس «واسمه «فقر الفكر وفكر الفقر» أحد هذه الكتب البديعة الذى صدر عام 1983 (منذ 33 سنة) والمدهش أن أغلب مقالاته تتحدث عما يحدث هذه الأيام من ظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية، وكأن الزمن عندنا ثابت لا يتحرك أبدًا!
توقفت بالتأمل أمام مقاله «ماذا فعلنا برمضان؟!» الذى جاء فيه:
«ماذا فعلنا برمضان؟! فأنا لا أستطيع أن أقول ماذا فعل رمضان بنا؟! فرمضان نشهر عبادة وصيام ومراجعة للنفس وتبتل، شهر السهارى لا لكى يأكلوا إلى آخر ثانية إمساك، ولكن ليعيدوا توازنهم النفسى ويراجعوا ما كان من حياتهم وعامهم وحتى يومهم ويتبينوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود فى علاقاتهم بالمولى.
وفكرة الصيام نفسها هى فكرة الامتناع عن الاستجابة للحاجات الجسدية العاجلة من مأكل ومشرب ومتع! حتى لا ينشغل الجسد بالجرى وراء تلك المتع، ويتفرغ الجسد والعقل جميعًا لما هو أليق بالإنسان، الإحساس الشامل بالطهر والرغبة الخالصة فى السمو بالذات عن متطلبات الحياة اليومية والتواصل مع الحق ومع العدل ومع الحقيقة الإسلامية الكبرى وجوهرها.
ذلك هو رمضان، وذلك هو الصيام كما لابد أن يصومه أهل كل كتاب. ولكن يبدو أننا نحن المصريين دائمًا ما نلوى عنق الأشياء لتلائم مزاجنا وأهواءنا ولذلك ما كاد الفاطميون يجيئون إلى مصر وأنشأوا القاهرة والأزهر الشريف وجاءوا معهم بالمذهب الشيعى! وجاءوا أيضًا وهذا هو الأهم فى حديثنا هذا ـ بكثير من الطقوس والمهرجانات التى تصاحب المواسم والأعياد الإسلامية مثل مواكب الفوانيس فى رمضان والتواشيح وصنع الكعك واستيراد الياميش والأكل إلى حد التخمة!
وحين انتهى الحكم الفاطمى وانسحب معه المذهب الشيعى تمامًا، ولكن الشىء الوحيد الذى ترسخ فى الحياة المصرية وبقى ولا يزال باقيًا إلى الآن هو مظاهر «الفنطزية الفاطمية» التى كانت تصاحب حلول رمضان والمواسم والأعياد، وهى مظاهر «فنطزية» لأنها كلها تتعلق بالطعام والشراب والأنس والسمر ولا علاقة لها بالمناسبة التى تقام من أجلها! ولكن هكذا أراد المصريون!
وشهر رمضان هو شهر الامتناع إلا عن الحد الأدنى من الطعام، فقد كان المسلم البدوى فى صدر الإسلام وفجره وضحاه يصوم اليوم كله ولا يفطر إلا على قليل من التمر وبعض اللبن المخفوق إن وجد، وفى أحيان نادرة يصيب قطعة لحم حين يتهور أحدهم ويذبح شاة ويوزع لحمها على الأهل والجيران.
ويمضى «د.يوسف إدريس» قائلاً: ولكن شهر رمضان فى مصر هو شهر الطعام لا شهر الصيام، وقد كنت أدهش وأذهل حين أقرأ فى الجرائد ـ قبل حلول رمضان من كل عام ـ عنوانًا رئيسيًا ضخمًا يقول: استيراد مائة ألف طن من اللحوم بمناسبة شهر رمضان «أو توفير كذا ألف طن من السمن والأرز بمناسبة شهر رمضان! كنت أدهش لأن المفروض أن تكون العناوين هى: توفير كذا ألف طن لحم بمناسبة شهر رمضان! أو شهر رمضان يوفر كذا مليون جنيه عملة صعبة قيمة ما كان مفروضًا استيراده من المأكولات والأطعمة!
ولكنى لم أعد أدهش لهذه العناوين الفرعية بل لم أعد أدهش فأنا أقرأ تصريحات المسئولين عن التموين وهم يذكرون أن الاستهلاك زاد فى رمضان بأكثر من ثلاثين فى المائة عن متوسط الاستهلاك فى شهور الإفطار!
حولنا رمضان إذن من شهر صيام وتبتل إلى شهر جشع والتهام للطعام، وادخل أى بيت مصرى مهما تواضع دخله وانظر كم ونوع الاحتفال الغريب بوجبة الطعام والتفنن فى عمل السلاطات والحلويات والمحبشات، واصعد قليلا فى الدرجة ستجد المشويات والمقليات والأرز بالخلطة وبالزبيب والبندق والأسماك والمحشيات! ويكون أفراد الأسرة خمسة أو سبعة فيحضر طعام يكفى عشرة أو أحيانًا عشرين!
ولو اقتصر الأمر على حدود الطعام لهانت الكارثة، فالكارثة الحقيقية أننا حولنا شهر العبادة إلى شهر إضراب عن العمل أو بالأصح إضراب عن الإنتاج، فكل شىء مؤجل إلى ما بعد رمضان «كل سنة وأنت طيب»!
 ورمضان كريم.