الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الفلسفة العربية بين «رهاب التجريد» وقصور التجديد

الفلسفة العربية بين «رهاب التجريد» وقصور التجديد






منذ ما يقرب من 30 عاما ولم تظهر علينا قرائح المفكرين سواء شرقيين أوغربيين بنظريات جديدة فى الفلسفة أوفى علم الكلام، وهو علم ملحق بالفلسفة وقد يحلو للبعض بتسميته بالمنطق، لكننا نفضل أن نسميه «علم كشف جماليات اللغة واستنباط الحقيقة».
الفلسفة كما عرفها البعض: «هى علم قديم قدم الفكر البشرى والحضارات القديمة، عرفت الفلسفة وتفنيد الحقائق حتى قبل اكتشاف الكتابة كاختراع يصلح لتدوين الأفكار، لكن على الرغم من قدم الفلسفة وعراقتها كعلم كان يضم كل العلوم المعروفة قديما إلا أنه من المؤسف وعلى المستوى العادى فى مجتمعنا العربى تلقى الآن الفلسفة فهما خاطئا ومشوشا بل وتلقى تجاهلا «قد يكون متعمدا»، وذلك بسبب عدم فهم الكثيرين لطبيعة هذا العلم الواسع».
فأنت إذا كنت طالبا على أعتاب اختيار تخصصك فى الجامعة، وكانت رغبتك هى دراسة الفلسفة، ولأول وهلة سوف تجد فى البداية على المستوى الأسرى هجوما ضاريا بل وقد تتهم بالجنون وسيتم سؤالك باستمرار عن جدوى دراسة الفلسفة، كما أنك قد ستحاط بالشكوك والأسئلة من قبيل أنك لن تكون على ثقة فى إيمانك بعد ذلك، على اعتبار أن مجتمعنا العربى ما زال يتعاطى مع الفلسفة على أنها نوع من مناقشة العقيدة وأهميتها أو أنها قد تدعو إلى الزندقة فى مجملها وهذه طبعا أفكار خاطئة بنسبة 100% فى تبنى هذه الأفكار فى مجتمعنا العربى حتى ولو على المستوى الأدنى تكمن خطورة تدهور هذا العلم فى مجتمعنا العربي، ومع أن التجدد الفلسفى هو قضية عالمية لكننا سوف نركز فى البداية على مجتمعنا العربى كمجتمع بدأ يفقد طريقة لترتيب أفكاره، ومن ثم افتقاده لنسق فلسفى واحد أو متعدد يضم أفكاره وانتماءاته الثقافية.
ونستطيع أن نفترض جدلا أننا فى فترات تأخرنا وهى الفترات التى تجاهلنا فيها العلوم العقلية المجردة مثل الفلسفة، ودعنا قبل أن ندخل لنقضى على جمود الفكر الفلسفى نضرب مثلا لذلك قد يقرب للقارئ ما نرمى إليه.. فإذا أخذت العلوم الدينية مثلا من فقه وتوحيد وتفسير، وهى أهم علوم فكرية واستنباطية يملكها المجتمع الإسلامى خاصة والعربى عامة وجدنا أنها لم تتطور وتصل لما وصلت إليه إلا من خلال تبنيها لنسق فلسفى إسلامى أصيل قام أساسًا على إدراك أهمية الفلسفة كعلم قوي، يعمل كممر لتوصيل وتثبيت الفكرة وشرح ما يعجز العقل عن استيعابه أثناء تلقيه، فالعلوم الشرعية تأخذ النسق الفلسفى على أنه أداة لتثبيت هذه العلوم ونحن نعرف تماما أنه لولا وجود الفلاسفة المسلمين أو ما يطلق عليه المتكلمون لما كان للفلسفة الإسلامية وجود كما كانت العلوم الشرعية قد دخلت إلى حيز التنفيذ بدون فهم للماهية والهدف من تعاليمنا الإسلامية النبيلة، كما نؤكد أيضا أن أحكامنا الشرعية التى أفرزها لنا السلف الصالح فى عدم وجود نص قرآنى صريح أو حديث قوى من سنة سيدنا محمد «ص»، وفى حالة إبهام هذا وذاك اعتمد أئمتنا على منهج القياس الذى هو فى مجمله نسق فلسفى لاستنباط القضايا.
ونحن فى حل من أن نتعرض لعصور شابها التخلف فى قطار مسيرتنا العربية والإسلامية، كان شعار هذه العصور «من تمنطق فقد تزندق» أى قد كفر كل من حاول اتخاذ نسق فلسفى وهذا بالطبع هو عين التخلف.
فهل عدنا إلى هذه العصور التى تجعل من التخلف وشاحا تخفى به أهدافها من استغلال وتعتيم؟
بالطبع قد يكون هناك جزء غير مقصود فى تجاهل هذا العلم والتسبب فى عقمه بل وإخصائه كلية، لكن أيضا لا نستطيع أن ننكر أن هناك جزءا ليس صغيرا من التعمد فى إغفال الفلسفة كعلم له دوره فى كشف عصابة الجهل والتخلف من فوق أعين المجتمع، ولا أخفى أنه فى بعض مجتمعاتنا العربية وبشكل جزئى هناك من يستغل هذه النقطة.. ودعنا نقول إن السلطة فى بعض المجتمعات الشرقية ككل، هناك محاذير تخشى منها مثل اتساع أفق مجتمعاتها وشعوبها فهى تخشى أن تفقد كسلطة القوة الجبرية للجدل فالسلطة دائما فى المجتمعات الشرقية هى الشق الأقوى من الناحية الجدلية، فهى المنطق والبديهة والمسلمة، أى أنها هى المبرأة والمنزهة فكريا ووجود شق آخر قد يفوقها جدلا وحكمة يشكل خطرا على وجودها وبالتالى يجب إخصاء هذا الشق فكريا ولن يتأتى ذلك إلا بقتل كل فكرة جديدة حتى ولو كانت مجردة ولا تمت للسلطة بصلة، لكن التاريخ أثبت أن الأفكار المجردة ما تلبث أن تتحول لأفكار حية وأسلحة فتاكة تهدم القهر وتكشف التعتيم وبالتالى وأد الأفكار الجديدة هى الحل الأمثل.
ولكن طبعا ليس هذا تسليما منا بأن هذا يحدث عن عمد، لكنه فى الأغلب قد يحدث عن غير عمد، ونحن إذا تابعنا التسلسل فى حظر بعض الشخصيات فى مجتمعاتنا الشرقية وجدنا أن هناك مٌثلا مرفوضة قد تم زراعة هذا الرفض لها بشكل لا شعورى على مدار عصور طويلة، هذه المٌثل قد تتغير من عصر لآخر فنجد أنه فى مقتبل القرن العشرين كان هجوم المجتمع ورجال الدين «طبعا بإيعاز خفى من السلطة» ضد التوجهات الدارونية «نسبة لتشارلز داروين واضع نظرية النشوء والارتقاء» باعتبار أن تبنى نظرية للتطور تخالف النصوص المقدسة حتى ولو كانت مدعمة علميا فهى «كفر بين»، ثم بدأت الدفة توجه ناحية الأفكار الشيوعية والتى تم الإيعاز للطبقات المتدينة «بشكل خاطئ»، أن الشيوعيين كفرة وزنادقة على اعتبار أن الرأسمالية السلطوية كانت تجد فيها خطرا قويا، ثم بعد أن تحولت الشيوعية نفسها إلى سلطة دخل الفكر الدينى نفسه طور القهر السلطوي، على اعتبار أن الدين ضد الشيوعية وأنه قد يدمر اللجنة الاشتراكية بوجهة النظر الإسلامية السلفية، والتى نمت أيضا فى حضن الوعى المشوه بإيعاز من السلطة، لكن فى عصر متوسط بين عصر قهر العلم وقهر الدين جاءت حقبة قهر الفلسفة، وهذا يدلنا وبشكل لا يقبل الجدل أن الفلسفة هى الرابط القوى والمدعم المنطقى للعلاقة بين الدين والعلم، فبغياب الفلسفة قد يرى المتدينون العلم كفرا وزندقة ولغيابها أيضا يرى العلماء الدين رجعية وتخلفا.
إذن الفلسفة هى الوسط الذهبى بين الكفر والرجعية، ونحن فى أمس الحاجة الآن إلى هذا النسق السوى لأن الهوة بين الدين والعلم هى أساس كل التصدعات الحضارية التى ألمت بمجتمعاتنا العربية.
المحور الثانى هو تجاهل الفلسفة كعلم ومنهاج له قوته وتأثيره، فالمثقف العربى قد يجد فى معظم الأحيان أن الفلسفة رفاهية فكرية ورياضة عقلية، يجب أن تظل تمارس فى الذهن ولا مجال لتطبيقها عمليا كما قد يجد فيها أنصاف وأشباه المثقفين ملعبا قويا للتلاعب بالألفاظ، واستعراض العضلات الفكرية والأكاديمية، وهذه مشكلة ليست بالهينة لأننا نعرف أنه لولا خروج الفلسفة الإغريقية إلى حيز التنفيذ لم يكن هناك مطلقا ثمرات تطبيقية مثل الديموقراطية على سبيل المثال لا الحصر أو المحاماة أو التشريع السياسى والاجتماعي.
هناك أيضا قضية مهمة وهى كما قال قبل ذلك «برتراند راسل» الفيلسوف الإنجليزى أن المجتمعات تفرض نموذجا خياليا للفيلسوف، فهى ترى فيه الرجل الشارد دائما والمهمل فى هندامه ذا الشكل الوحشى.
وهذا قد ينطبق على مجتمعانا العربية التى فقدت تميزها للفيلسوف، فرجل الشارع العادى فى مجتمعاتنا العربية يرى أنك تحاول أن تخدعه إذا حاولت أن تتفلسف «إذن الفلسفة خداع» أو أن يقول لك «إنت بتدرس فلسفة ربنا يهديك» أو يرى فى الفيلسوف إنسانا مخبولا يعيش فى الأوهام وهلم جرا، ولقد أقر «روشاس» عالم النفس الألمانى أن المجتمعات الشرقية أقل تفاعلا مع الأفكار المجردة وبالتالى فهى أقل انفعالا بالفلسفة.
هناك أيضا ما يطلق عليه اصطلاحا «رهاب التجريد»، وهو ما قد ينطبق على معظم المجتمعات التى تحاول أن تنتهج منهجا علميا أو تسعى لتدعيم البنية التكنولوجية مثل مجتمعاتنا العربية، وهو أن ترفض التجريد خوفا من الوصول إلى طريق خيالى أو نسق لاعلمى وهذا سبب قوى من أسباب عقم الفكر الفلسفى فى مجتمعنا العربي.
نحن أمام قضية مصيرية بالفعل وهى العقم الفلسفي، ولا ندعى أننا قدمنا كل المحاور، لكن حاولنا وبشكل بسيط تقديم بعض جذور مشكلة الفلسفة فى مجتمعنا العربي، كما أننا نحاول أن نلقى الضوء لكى نحفز مفكرينا ومنظرينا على طرح القضية بشكل أوسع.. ولا نجد ما نختم به كلامنا إلا هذه الكلام لأحد عباقرة الفلسفة الحديثة وهو الفيلسوف «فيتنجنشتاين»: «قد يرى البعض أنه لا هدف من الفلسفة لأنك عندما ترى شجرة تقول أعرف أن هذه شجرة ولست بحاجة إلى ما يثبت لى أنها شجرة، لكنك هنا بالتحديد تفقد فهمك للحقيقة فأنت لا تتعلم الفلسفة حتى تعرف أن هذه شجرة لكنك تتعلم الفلسفة لتعرف ماهية الشجرة».