الخميس 8 أغسطس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«أجانزيو بوتيتا».. وجه صقلية المشرق شاعر الخبز والكلمة والكفاح

«أجانزيو بوتيتا».. وجه صقلية المشرق شاعر الخبز والكلمة والكفاح






(القوارب تصل إلى باليرمو، الكثير من القوارب، القراصنة يأتون على الشاطئ، بوجوههم الجحيمية، يسرقون منّا الشمس، ويتركوننا فى ظلام، أى ظلام، وتبدأ صقلية فى النحيب).. إنه أحد مقاطع «أجنازيو بوتيتا» فى وصف صقلية هذا الشاعر الذى قال عنه «يانيس ريتسوس» شاعر اليونان الأشهر (بوتيتا ليس شاعرا بل هو من أكثر شعراء العالم تميزا لأنه يكتب بلهجة محلية ولغة نادرة يكتب من القلب للفقراء والمهمشين لأنه منهم بعد أن عانى آلام التهميش والفقر وخذلته السياسة كما خذلتنا جميعا).
الحقيقة أن كلام «ريتسوس» يقدم تلخيصا للسيرة الذاتية لبوتيتا لأنه بدأ مع الفقراء والمهمشين وقضى جل حياته يبحث عن انتماء لمجموعة سياسية تحقق حلم صقلية فى إعالة الفقراء وكسر الاستغلال ومسح السواد عن وجه صقلية الذى لوثته دماء القتل والجهل وسوء السمعة، أجانزيو بوتيتا ليس مجرد شاعرا عاديا وحسب بل هو جزء لا يتجزأ من تاريخ صقلية، فالعديد والعديد من الأعمال الفنية من رواية وقصة وسينما تتخذ بوتيتا رمزا لصقلية وصراعها فى القرن العشرين، حتى قال الكاتب الايطالى الكبير إلبرتو مورافيا (بوتيتا هو شمس صقلية التى لا تغيب).
وقبل أن نبحر لعوالم بوتيتا الشاعرية والتراجيدية أيضا علينا أن نلفت النظر إلى أحد خيوط الصراع فى شبه جزيرة إيطاليا، وهو صراع نعتقد أنه أزلى وقديم كرست له تلك الأعراق الكثيرة التى شكلت إيطاليا منذ نشأتها الأولى فنحن دائما وعلى مدار التاريخ الطويل لإيطاليا منذ عهد الجمهورية دائما ما نرى هذه النعرة العنصرية التى تعلى من شأن أهل الشمال وتحقر من أهل الجنوب، وحتى فى العصر الحديث نجد أن أهل الشمال وأهل روما وضواحيها يعتبرون أهل الجنوب سوقة ولصوص على حد تعبير الكلمة دون مواربة، فهم يرون فى «النابوليتان» - أهل نابولى - جهلة ولصوص ومراوغين ويرون فى أهل صقلية دمويين ورجال عصابات، ودعنا نؤكد للقارئ العزيز ختل وبهتان هذه المقولات العارية تماما عن الصحة والتى كرست لها السينما الايطالية، ربما ليس الايطالية وحدها بل أيضا الأمريكية فنحن نكاد نرى صورة الصقلى والنابوليتانى فى السينما الأمريكية هى صورة دموى وقاتل خصوصا أن صقلية كانت تعرف دائما على أنها موطن المافيا والمعروفة بأنها مؤسسة للجريمة انتشرت فى جميع أنحاء العالم خصوصا فى أمريكا لكن إذا نظرنا حقيقة للتاريخ الإيطالى لوجدنا أن 70% من عظماء التاريخ الإيطالى خرجوا من صقلية ونابولى بشكل خاص ومن الجنوب الإيطالى بشكل عام، ولعل القائمة يضيق عنها الحصر فهى طويلة للغاية وتعج بأسماء كبيرة فى كل المجالات مثل «برنينى»، «تورناتورى»، «كاروزو»، «دى سيكا» وغيرهم كثيرين ولعلنا نقول بخصوص صقلية إن إيطاليا الحقيقة لم تنشأ لولا وجود صقلية والتى استوطنها فى البداية مجموعة من المهاجرين الإغريق من «أيونيا» - أسيا الصغرى - ومن أتيكا أيضا مجموعة من مهاجرى فينيقيا وكونا ما يعرف بـ«ماجنا جرايكيا» أى اليونان الكبيرة وهذا هو اسم صقلية حتى نهاية القرن الأول الميلادى ثم أصبحت صقلية جزءا من إيطاليا لكنها ظلت تتمتع بشكل من أشكال الحكم الذاتى مما حدى بحاكمها فى القرن السادس عشر أن يستنجد بالعرب المسلمين فى الأندلس لأنه وجد نفسه فى مواجهة سلطة البابا الذى أراد أن يفرض سلطته على صقلية، ومن ثم ظلت صقلية فترة من الزمن تعدت التسعين عاما تحت حكم المسلمين الأندلسيين حتى أن الكنيسة الكبيرة فى باليرمو وهى أكبر وأقدم كنائس الجزيرة ما هى إلى مسجد كبير بناه المسلمون هناك لم يستخدموه لقصر مدة أقامتهم فى صقلية، فترى فى أعلى المسجد آيات الذكر الحكيم والزخارف الإسلامية مازلات موجودة حتى يومنا هذا كما تحتوى اللغة الصقلية على أكثر من 300 كلمة عربية حتى يومنا هذا.
الحقيقة أن الأدب الصقلى بحاجة للعديد من الدراسات حتى تظهر لنا عبقريته وتفرده مع أننا لا نجزم بوجود الكثير من عينات هذا الأدب خصوصا فى الرواية والمسرح لأنه حتى الصقليين أحبوا أن يكتبوا بالإيطالية حتى يضمنوا لأدبهم الانتشار بين الإيطاليين باعتبارهم القاعدة الأعراض، لأن الإيطاليين لا يفهمون اللغة الصقلية إلا النذر اليسير منها والذى يمثل جذورا للغة الإيطالية المعروفة ومن ثم لن نجد غير كتب الحكايات الشعبية هى التى كتب منها القليل باللغة الصقلية لكن على العكس فهناك شعراء وكتاب أغانى كثيرون كتبوا باللغة الصقلية ومن بينهم شاعرانا الذى نتحدث عنه اليوم «أجنازيو بوتيتا» والذى يجيد الإيطالية أيضا مثله مثل كل أهل صقلية لكنه فضل أن يكتب بلغته المحلية والتى وجد فيها خصوصية تؤهله لأن يصل لقلوب مئات الآلاف من الصقليين الذين أحبوا شعره وتغنوا به.
يتميز شعر أجناسيو بوتيتا بالواقعية والفلسفة، فعلى الرغم من أن «بوتيتا» لم يتلق غير النذر اليسير من التعليم المنظم إلا أنها كان يتمتع بحكمة وفلسفة كبيرة تلقاها من مدرسة الحياة وتجاربه الواسعة التى امتدت لأكثر من 80 عاما حيث عانى الكثير من الحروب والظروف الصعبة عاصر حربين عالميتين الأولى والثانية والحرب الأهلية فى صقلية بين الشيوعيين والمافيا وصعود وسقوط الفاشية، فسجنه الفاشيون وكرهته المافيا ولم تحقق له الشيوعية شيئًا يذكر.
يعتبر شعر «بوتيتا» من أكثر أنواع الشعر عقلانية فى تاريخ الأدب الإيطالى فهو دائما ما يتحدث عن الحرية والعقل واللغة بل وتشكل له اللغة أهم مكونات العقل البشرى فهى طريقة التعبير والجسر الحقيقى لإطلاق طيور العقل بعيدا لتتنسم نسائم الحرية حتى يعتبرها بوتيتا فى قصيدته اللغة واللهجة (اللغة والحوار) هى ثروة الإنسان الحقيقية فيقول: هاهم البشر/ ضعهم فى الأغلال/ اربطهم جميعا عراة/ اسكت أفواههم/ سوف يظلون أحرارا/ أسلب منهم عيشهم/ حريتهم فى الترحال/ موائد طعامهم/ الفراش الذى ينامون فيه/ وسوف يبقون أغنياء/ ها هم البشر/ سوف/ يصبحون فقراء/ ويستعبدون/ حينما تسلب منهم لغتهم/ الذين ورثوها عن أجدادهم/ حين أذ سوف يضيعون للأبد.
هكذا يرى أجنازيو بوتيتا اللغة والحوار هكذا يرى الثروة الحقيقية فى التواصل عن طريق اللغة والبلاغة هى الحرية الحقيقية وهى الثروة التى مهما ضاع من البشر سوف تعوضهم ما ضاع منهم.
ولد أجانزيو بوتيتا شاعر صقلية الأشهر فى سبتمبر عام 1899 فى باجاريا - باعاريا - وهى أحد أقاليم صقلية الغنية واسمها فى الأصل عربى فهى محرفة عن العربية - البحرية - لأنها تقع على البحر ويعيش فيها أثرياء صقلية ورجالات المافيا الكبار حتى إن البعض يطلق عليها بوابة النهاية، ولد بوتيتا لأسرة فقيرة كانت والدته تملك حانوت بقالة صغير فى السوق وكغيره من شباب الجيل عاصر الحرب العالمية الأولى لكنه كره الحرب ولم يحب الجندية وانضم إلى منظمة فيليبو توراتى الاجتماعية والتى كانت فى هذا الوقت التى تناهض الحرب ثم أصدر مجموعته الشعرية الأولى تحت اسم – عاطفى – ثم أصدر مجموعة أخرى عام 1928 تحت عنوان «أغانى للحب» أو «ماربيدا» باللغة الصقلية وبعدها ضاقت الأحوال فى صقلية فانتقل إلى ميلانو وعمل بالتجارة وحقق بعض النجاح المادى وكان بوتيتا دأبه دأب كل الشعراء الفقراء يريد توفير بعض المدخرات ليتفرغ للشعر مثلما كان يقول دائما الشاعر الفرنسى آرثر ريمبو، أسس هو وجانشى باتيليا مجلة الجوهرة وكان يكتب فيها الشعر ولكن بعد فترة وجيزة من صدورها أغلقها الحزب الفاشى، وفى منتصف الحرب العالمية الثانية انضم للمقاومة الشعبية فى جانب الحلفاء ومن ثم اعتقله الفاشيون، وبسقوط الفاشيين أطلق سراحه وعاد إلى صقلية وكان منزله وحانوته الصغير قد تم نهبه ومن ثم عاد مرة أخرى لميلانو، فى منتصف الخمسينيات أصدر قابل العديد من رجال الفن والمال مثل فيتورينى وكوزاميدو وأصدر من انتاجهم ديوانه الأشهر – الخبز يدعى الخبز – أو الخبز اسمه الخبز واتبعه بالعديد من الدواوين الناجحة مثل – الشاعر واللصوص – وديوانه الرائع – أعمل شاعرا – الذى صدر عام 1972، فى السبعينيات عاد بوتيتا لصقلية نهائيا وكان لديه منزل قضى باقى أيامه بين مريديه وتلاميذه وكان يلقى الشعر فى الأسواق وعلى الرغم من أنه انضم فترة للحزب الشيوعى لكنه تركه بعد فترة وجيزة وكان يقول (الشيوعيون دائما ما يضعوك على مفترق الحلم لكنه يتحدثون فقط ولا ينجزون أى شىء كأنهم بشر مبتورى الأيدى)، وقد مات بوتيتا عام 1997 بعد أن ترجمت قصائده للغات عدة وغناها المغنيون المحليون والعالميون أيضا.