أيمن عبد المجيد
الحكومة والمواطنون وتحديات الإقليم
شاء الله أن يكون موقع مصر الجغرافى وسط إقليم بالغ الأهمية الجيوسياسية، ما جعلها، على مدار التاريخ، محط أنظار العالم، وساحة لتجاذبات وصراعات وأطماع القوى الدولية المتصارعة.
تتحمل مصر مسئوليتها الوطنية والعربية والإسلامية، فى حماية مقدراتها وأمن وسلامة أشقائها العرب والأفارقة، ليدفع شعب مصر الأثمان باهظة عن رضا وقناعة.
فعلى مدار التاريخ كانت مصر ترمومتر الأمن والاستقرار، إذا قويت استقرت المنطقة، وإن أصابها الضعف والوهن، تصارعت الذئاب تنهش الجسد العربى والإفريقى.
يشهد التاريخ بذلك فى معارك حطين وعين جالوت، وصولًا إلى السادس من أكتوبر 1973، ودعم مصر الحالى لصمود الشعب الفلسطينى على أرضه فى مواجهة مخططات تصفية القضية الفلسطينية، ودعم استعادة قوة الدولة العربية الوطنية فى اليمن والسودان وليبيا وغيرها من البلدان، التى شهدت مؤسساتها صراعات وتصدعات.
ورغم كل التحديات العالمية والإقليمية بانعكاساتها المحلية، يبقى تعظيم قدرات مصر حصن الأمن للمنطقة العربية، فمصر السند رغم كل ما تواجهه من تحديات اقتصادية، جزء منها يعالج بالإصلاحات والتنمية، وآخر يعود لاستيراد التضخم الناجم عن الصراعات والحروب والأزمات الاقتصادية العالمية.
لكن مهما كانت التحديات، التى تستوجب تقديرا دقيقا للموقف وإلماما جيدا بأبعادها وأسبابها، فإن الأمل يظل هو الأساس، واليقين فى قدرتنا على التنمية والرخاء راسخ، فهذه هى دروس التاريخ.
الاقتصاد العالمى، يواجه موجة تضخمية جديدة، تصدر بالتبعية لكل الدول، لتتأثر بها كل دولة وفق مدى ارتباطها بمنظومة الاقتصاد العالمى، ومدى مرونة اقتصادها وقدرته على امتصاص الأزمات.
إقليميًا.. تبحر سفينة الوطن فى محيط إقليمى متلاطم الأمواج، تتصاعد فيه الصراعات على مختلف الجبهات، فالكيان الصهيونى يرتكب حماقات، تستدرج المنطقة لمزيد من التصعيد، ومخاطر اندلاع الحرب الشاملة.
وفى السودان.. تعبث قوى خارجية بجهود ومحاولات رأب الصدع، بحثًا عن مكاسب يدفع أبناء الشعب ثمنها من دمائهم واستقرارهم، وكذلك ليبيا، وفى اليمن مخاطر تصعيد الحوثيين، يهدد فرص استعادة بناء الدولة لمؤسساتها، ومن ثم اقتصاديات الملاحة الدولية فى البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وبالتالى تأثيراتها المحلية.
وسط تلك المخاطر والتهديدات، تجاهد القيادة السياسية والحكومة المصرية لتعزيز قدرة الدولة الشاملة وتخفيف الآثار السلبية للتضخم العالمى، وآثار التحديات الإقليمية.
ينتظر المواطن المصرى، انعكاسات التنمية والرخاء على مستوى معيشته، فقد تحمل الكثير بوعى فطرى تراكمى مختزن فى جيناته من خبرات الأجداد ومعايشة التحديات والمحن التى حولها شعب مصر العظيم إلى منح فعبر وانتصر.
توجيهات الرئيس وأداء الحكومة
المدقق فى المشهد يدرك أن تعاطى الدولة مع التحديات بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، تقوم على أربعة مرتكزات:
الأول: تبذل الدولة المصرية أقصى جهودها المخلصة لتخفيف حدة التوترات الإقليمية، وكثيرًا ما دعا الرئيس عبدالفتاح السيسى القوى الدولية الفاعلة لتحمل مسئولياتها فى الضغط لوقف إطلاق النار فى غزة، وخفض معدلات التصعيد، والعمل على إحلال السلام.
وقدمت مصر فى مناسبات عدة مقاربات شاملة لإحلال الأمن والسلم، داعمة بكل قوة لإنهاء الصراعات فى دول الجوار بحلول سياسية، ملتزمة باحترام سيادة الدول.
مؤكدة أن الحلول السياسية المحلية سودانية سودانية، وليبية ليبية هى الطريق الأساسى للحفاظ على الدولة الوطنية، ولن يكون ذلك إلا بوعى القوى الوطنية داخل كل دولة لمواجهة تدخلات الخارج وأطماع العابثين بمستقبل الأوطان.
إحلال الأمن والاستقرار هو بداية الطريق لتخفيف الآثار السلبية لتوترات الإقليم على جهود التنمية داخل الأوطان، وخفض التصعيد فى المنطقة يسهم فى تعزيز فرص التنمية والشراكات التى تعود على مصر والوطن العربى بالخير.
الثانى: تعظيم جهود الدولة فى الإصلاح الاقتصادى ومواصلة التنمية وتعزيز القدرة الشاملة
توترات الإقليم فُرضت علينا، ونعمل على خفض معدلاتها أملًا فى استعادة السلم والاستقرار، لكن فى ظل استمرارها وتصاعدها، وهو احتمال قائم، علينا اتخاذ كل الإجراءات لمواجهة آثارها.
وهو ما انتبهت له الدولة وحكومات 30 يونيو المتعاقبة، التى عملت على تنفيذ استراتيجيات تنموية وإصلاحات اقتصادية جذرية، وتنمية شاملة ومتوازنة فى البنية التحتية والزراعة والصناعة وتعظيم استثمار الثروة المائية والبشرية.
فلم تحل الحرب على الإرهاب دون تحقيق التنمية بخطى متسارعة لبلوغ أهداف تعزيز القدرة الشاملة التى مكنت مصر من الصمود فى مواجهة التحديات وحفظتها من الآثار السلبية للتضخم المستورد على حياة المواطنين.
فلا ينكر راصد للأوضاع معاناة الطبقات الفقيرة والمتوسطة من موجات ارتفاع الأسعار، لكن كانت تلك المعاناة ستتضاعف ما لم تكن الدولة سارعت منذ عام 2014، فى مشروعاتها القومية وإصلاحاتها الاقتصادية، ورفع كفاءة البنية التحتية، فما وصلنا إليه بذلت من أجله دماء الشهداء فى معركة القضاء على الإرهاب، وتصبب عرق المخلصين فى معارك البناء والتعمير.
على سبيل المثال أزمة تخفيف أحمال الكهرباء ناجمة عن وقود التشغيل، وليس كفاءة مولدات الإنتاج وشبكات التوصيل، ومن ثم بمجرد حل أزمة وقود التشغيل انتهت الأزمة وتراجعت حدتها لأدنى مستوياتها، وباتت الدولة قادرة على الإيفاء باحتياجات التنمية العمرانية والصناعية والزراعية، ففى حال إغفال رفع الكفاءة وكل ما تحقق من إنجازات فى البنية التحتية كانت المعاناة ستتضاعف.
الثالث: حزم الحماية الاجتماعية لتخفيف معاناة الأسر المتوسطة والفقيرة
مع كل جهود إحلال السلم لتحييد المؤثرات الخارجية، وكل جهود التنمية لرفع قدرة الاقتصاد المصرى، تبقى المسافة الزمنية بين بلوغ هدف انعكاس ثمار التنمية على حياة المواطن الفقير ومتوسط الدخل عاملا بالغ الأهمية يتطلب حلولا عملية تمكن تلك الفئات من الصمود والعيش الكريم لحين بلوغ المرحلة التى تنعكس فيها جهود التنمية على جميع المواطنين بلا استثناء.
وهو ذاته الفاصل الزمنى، الذى يشهد جراحات الإصلاح الاقتصادى، وما يتبعها من آلام يتحمل غالبيتها المواطن الفقير ومتوسط الدخل، ومن ثم الأمر يتطلب تدخل الدولة لتوفير مسكنات الآلام لحين الشفاء من الجراحات، ولن تكون مسكنات الآلام إلا حزم حماية اجتماعية.
حققت الدولة الكثير من مشروعات العدالة والحماية الاجتماعية للأكثر احتياجًا، من خلال مشروعات حياة كريمة، والقضاء على العشوائيات، والقضاء على فيروس سى والعلاج على نفقة الدولة، وتكافل وكرامة، ومشروع حياة كريمة، ودعم الأجور والمعاشات، لكن مع تنامى التحديات يتطلب الأمر مزيدا من الإجراءات التى تواجه عقبة التمويل.
فالحكومة تنفق على دعم السلع والخدمات المليارات، وجزء منها يذهب إلى غير مستحقيه، وحال حوكمة منظومة الدعم يمكن توفير جزء من نفقات الدعم لصالح مضاعفة برامج الحماية الاجتماعية وتحويلها لمستحقى الدعم فعليًا.
بالتأكيد هذا ما دفع المهندس مصطفى مدبولى رئيس الوزراء، لدعوة الإعلام، ومؤسسة الحوار الوطنى، لمناقشة تحويل الدعم العينى إلى نقدى، وآليات ومقترحات حوكمة تطبيقه ليصل لمستحقى الدعم دون غيرهم.
فكرة تحول الدعم من عينى إلى نقدى، طرح قديم لإصلاح جذرى للاقتصاد المصرى وإصلاح موازنة الدولة التقديرية وميزانياتها الفعلية، لكن لم يسبق اتخاذ خطوات عملية للتنفيذ.
تلك الخطوة المصيرية، تحتاج إلى حوار عميق بين الاقتصاديين، وحوار مجتمعى واسع، فمن حيث المبدأ تحويل الدعم إلى نقدى ضرورة ملحة وعلاج جذرى، ومن حيث التفاصيل نحتاج إلى حوار عميق لضمان التحقيق الأمثل بما يحقق الهدف، وهو وصول الدعم للمستحق وبالقيمة العادلة التى تحقق له الحياة الكريمة.
وقد طرحت قبل ذلك مثالا لدعم الوقود، فمالك المصنع الذى لديه أسطول من سيارات النقل يستفيد من دعم الوقود أضعاف ما يستفيده المواطن مالك السيارة الخاصة، والاثنان يستفيدان أضعاف ما يستفيده المواطن الذى يستخدم المواصلات العامة.
وهنا لا خلاف على أهمية تحويل الدعم العينى الذى يستفيد منه الجميع بلا معيار للاستحقاق، فمثلاً الوقود المدعوم تحصل عليه البعثات الدبلوماسية وسيارات الشركات السياحية من محطات الوقود بنفس سعر المواطن المصرى.
لكن النقاش المطلوب هنا، يجب أن يتسم بالعمق، ليخرج التطبيق محققا لعدالة الدعم النقدى، وضمان وصوله إلى كل مستحقيه دون إغفال فرد واحد يستحقه، كون من يسقط من منظومة الدعم النقدى بدخله المحدود، ستسحقه موجات التضخم وأسعار الخدمات بكلفتها الحقيقية.
وهنا تبدأ المنظومة بقواعد بيانات دخول الموظفين والعاملين بالقطاع الخاص، ومن لا دخل لهم، والعاملين بأنشطة استثمارية بمستوياتها ومعدلات دخولهم ومدى ثبات تلك الدخول وتقلباتها.
لتبدأ الحكومة فى وضع شرائح للدخل المستحق أصحابه للدعم وتحديد فئات الدعم وفق تلك المستويات مع مراعاة عدد أفراد الأسرة وغيره من التفاصيل.
وهنا تكون شرائح الدخل النقدى متنوعة، ومرنة، تتغير قيمتها وفق متغيرات الحالة وأسعار السوق ومستويات التضخم.
كل ذلك يتطلب من كل صاحب فكر وجهد مخلص تقديم رؤيته، ومن الحكومة أخذ كل المقترحات والنقاشات بعين الاعتبار والدقة فى ضبط المنظومة لضمان تحقيقها لهدفها الأسمى وهو وصول الدعم لمستحقيه وبالقدر الذى يستحقونه.
الرابع: العمل على الأرض وإجادة التواصل
عمل الحكومة على الأرض، وإجادة التواصل مع الشعب، سياسيًا وإعلاميًا، أساس نجاحها، فالتواصل مع الجمهور يمكنها من الوقوف على اتجاهاته واحتياجاته الفعلية، ويمنحها فرصة إطلاعه على ما تبذله من جهود ونسب ما يتحقق من الأهداف الرامية لخدمته، وتحديات عملها ودور المواطن ذاته فى مساندتها لخدمته.
وربما هذا ما دفع الرئيس عبدالفتاح السيسى، إلى توجيه حكومة مدبولى الثانية، بالنزول لمواقع العمل والتواصل مع الجمهور والإعلام، لإطلاع الرأى العام على الحقائق والاستماع لوجهات النظر المتباينة.
وقد لوحظ حرص الوزراء والمحافظين على تكثيف جولاتهم الميدانية، فى الأسابيع الأولى لعملهم، مع الحرص على الإلمام الدقيق بالملفات، والإجابة عن تساؤلات الصحفيين فى المؤتمرات واللقاءات التى ينظمونها، وهو اتجاه محمود.
فقد أطلع رئيس الوزراء إعلاميين وصحفيين فى مناسبات عدة على حقيقة الأوضاع مؤكدًا أن الاقتصاد المصرى فى حدوده الآمنة، وفق المعايير والمؤشرات العلمية، فقد تراجع الدين العام، ونما الاحتياطى النقدى، وتتواصل الإصلاحات التى تهدف إلى تحسين حياة المواطنين.
وفى كل وزارة يجتهد كل وزير فى ملفاته وينتهج النهج ذاته فى التواصل مع الإعلام والمواطنين وزياراته لمواقع العمل.
الأحد الماضى شرفت بدعوة كريمة من السفير بدر عبدالعاطى وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج، لحضور النسخة الخامسة من مؤتمر المصريين بالخارج، تحت شعار «من أم الدنيا لكل الدنيا».
عكست الجلسة الافتتاحية مدى اهتمام الدولة المصرية، بكل أبنائها بالخارج، والحرص الكامل على الاستماع إليهم والعمل على حل مشكلاتهم، مشيرًا إلى العمل على رقمنة الخدمات القنصلية لتسهيل وتسريع إجراءات تجديد جوازات السفر واستخراج بطاقات الرقم القومى، مع شرح كامل للفرص الاستثمارية بالداخل المصرى.
الوزير يرى فى المصريين بالخارج خط الدفاع الدبلوماسى الأول خارجيًا، «فهم سفراء الوطن وشركاء التنمية»، مشددًا حرصه على استفادتهم من الفرص الاستثمارية فى الداخل والمساهمة فى جذب الاستثمارات الأجنبية.
وخلال الجلسة الافتتاحية حضر وزير الإسكان الدكتور شريف الشربينى، الذى استعرض ما شهدته البنية التحتية والخريطة العمرانية من مشروعات بلغت 24 مدينة ذكية تخلق فرصا استثمارية للمصريين فى الخارج، وغيرها من الفرص التى عرضها المشاركون.
التواصل بين الحكومة والمواطنين بالداخل والخارج، يعزز استثمار الدولة لمقدراتها البشرية، واللحمة الداخلية، ويعزز بناء وعى حقيقى.
أمام الوطن تحديات خارجية وتنموية فى مختلف المجالات لكن هناك إنجازات تبشر بمستقبل أفضل وتعطى جرعات من الأمل.
أول قطارات تربط موانئ مصر الاستراتيجية بدأ العمل، ومشروعات زراعية عملاقة بدأت تنتج، ووزارات تعمل على التوسع فى أنظمة الرى الحديث لترشيد الاستهلاك وتعظيم الفائدة من القدرة المائية، وكليات تكنولوجية حديثة توفر بيئة تعليمية لإخراج منتج تعليمى يفى بمتطلبات سوق العمل الحديث.
مصر بإذن الله ستعبر التحديات.