الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
عباس كياروستامى.. الرومانسية والضجر الزوجى فى نسخة طبق الأصل

عباس كياروستامى.. الرومانسية والضجر الزوجى فى نسخة طبق الأصل






حينما سؤل شارلى شابلن لماذا لم تنتج أو تمثل فيلما رومانسيا؟ أجاب تشابلن (ليس كل ممثل أو مخرج يستطيع أن يقوم بهذه المغامرة فالأدوار والأفلام من النوعيات الأخرى قد تنجح أو تفشل بدرجات وقد تعجب البعض ولا تعجب البعض الآخر أما الفيلم الرومانسى أو الدور الرومانسى فأنه أما ينجح أو يفشل ولا خيار ثالث).
هذه ما سوف تشعر به عندما تشاهد هذه التحفة الفنية الذى عرض على هامش مهرجان لوكارنو السينمائى بسويسرا وهى العمل الدرامى الكبير (نسخة طبق الأصل) للمخرج الإيرانى المتألق عباس كياروستامى الذى نجح أن يعيد لأذهاننا ذكرى التجارب السينمائية الرومانسية العظيمة مثل غرباء حين نلتقى وسبعة أيام فى طوكيو والعديد من الأفلام العبقرية التى ألقت بظلالها الرومانسية على قلوب أجيال بأكملها والحقيقة أن كياروستامى كان فى ذهنه مشروعا كاملا كان يعمل عليه منذ سنوات كما سنرى من الفيلم فلقد بذل مجهودا كبيرا جدا لتبدو كل ثانية فى الفيلم رومانسية وحالمة حيث اختياره المتقن للمكان والزمان والحدث ونستطيع أن نقول إن كياروستامى تعلق كثيرا بتقنية الدراما الكلاسيكية القديمة فعمله وأن كان سينمائيا إلى أنه تتوافر فيه كل مقومات خشبة المسرح القديم الناجحة ففيه وحده حدث ووحدة زمان ووحدة مكان ولا نخفى أعجابنا بهذه التقنية التى شكلت عنصر جذب وتتابع فى أحداث الفيلم.
لم يكن اختيار كياروستامى للأبطال عبثيا أو بشكل عشوائى بل جاء اختياره عن تدقيق وحنكه وربما عن رؤيا ذاتيه لأبطال هذه القصة الرومانسية الجميلة والغريبة أيضا واستطيع أن أقول إن كياروستامى وفق بنسبة كبيرة فى اختياره للممثلين على الرغم من أنه راهن بجزء كبير من مستقبل الفيلم حينما رشح لدور البطولة الفنان ومغنى الأوبرا الألمانى الشهير وليم شميل والذى كان الفيلم بالنسبة له تجربته الأولى فهو يقف أمام الكاميرا لأول مرة وسوف أتوقف قليلا عند هذه النقطة لأننى احاول أن أقيم هذه المخاطرة الكبيرة التى قام بها كياروستامى والتى كانت من مقومات نجاح الفيلم.
منذ خمس سنوات كنت أجلس فى صالة العرض بجانب بطل الفيلم مغنى الأوبرا الشهير وليم شميل والذى أتى للمشاهدة العرض مع زوجته وولده وابنته الصغار فى عرض الفيلم الأول ولقد دفعنى الفضول أن أسأله (كيف تم اختيارك لهذا الدور؟ فرد شميل بابتسامته الهادئة وحماسه الذى كان سببها أعجابه بنجاح الفيلم قال لى (لا أعرف ربما الحظ هو الذى قادنى لذلك لأن كياروستامى كان بالصدفة يشاهدنى فى أحد العروض الأوبرالية كنت أؤدى دورا فى اوبرا – كوزى فإن توتى – الشهيرة فجاء إلى حجرتى وسألنى إذا كنت أحب أن أمثل فى السينما؟ فأجابته بأننى لم أمثل قبل ذلك ورفضت بلطف.... ثم قام بالاتصال بى ثانية وطلب نفس الطلب والحقيقة أننى كنت أفكر وكنت مأخوذا بالفكرة ثم وافقت بعد ذلك واكتشفت أننى كنت مفتونا بالسينما ولم اكن أدرك ذلك).
وحينما بدأ العرض لم أعرف ماذا حدث المخرج قام باختطاف الجماهير فى متاهة ممتعة وعذبة فى لغز شديد التعقيد على الرغم من بساطة المشهد السينمائى إلا أننى كنت أشعر أن كل تفصيل صغير فى المشهد يقود المشاهد لحل جزء من اللغز وكياروستامى يصر أن يكون الفيلم لغزا وهذا ما تبينته بعد ذلك حينما اكملت حوارى مع وليم شميل.
يحاول كياروستامى أن يعالج قضية الضجر الزوجى بشكل جديد جدا ويحاول أن يطرح لها معادلا رومانسيا بصريا يحفز به المستقبلات البصرية لدى المشاهد ليضعه فى حاله عاطفية قد توصف أحيانا بالحزن ولأن القصة أساسا هى قصة رومانسية وسيكولوجية قد نصفها بالحزينة ودعم هذا الشعور أداء الممثلة الرائعة جوليت بينوش وهى صاحبت تاريخًا كبيرًا فى السينما العالمية والحقيقة أننى لم أر أى تكلف فى أداء جوليت بينوش وهذا ما جعلنى أشعر أن بينوش تعانى مشكلة الضجر الزوجى والتجاهل فى حياتها الحقيقة بل وشعرت أن معظم المشاهدين يشعرون بهذا الشعور والحقيقة أن كياروستامى لعب بذكاء على أكثر مشكلات العصر انتشارا بين المتزوجين وهى مشكلة الضجر الزوجى والتجاهل كما قلنا ويأخذنا عبر تيارات المشاعر للأبطال فتجد نفسك كمشاهد مدفوعا أحيانا بالدهشة أو بالإحباط أحيانا أخرى.
تدور القصة فى إحدى قرى توسكانا الإيطالية الخلابة حيث يقابل البطل والذى يقوم بدوره وليم شميل البطلة جوليت بينوش وهو مؤلف كتاب شهير أتى لتوقيعه فى تلك القرية (أو هكذا يبدو) لاحظ أن هذه أحداثا أوليه للمشاهد وتأتى البطلة وهى امراه فى عقدها الرابع تأتى لتدعوه لتوقيع الكتاب ثم تدعوه لزيارة مكان قريب من المكتبة ويرحلان سويا فى رحله إلى تلك الشجرة التوسكانية الذهبية فى أحدى الكنائس والتى تقول الحكايات الشعبية أن من يتزوج بجانبها لا يفترقون أبدا (والذى يميل كياروستامى إلى أنها بالطبع هراء من حدوته شعبيه سخيفة) وهناك يقوم الأبطال بتمثل دور الزوج والزوجة نتيجة لوقوع خطأ ما فالنادلة فى المقهى الذى يجلسون عليه لاحتساء القهوة تعتقد بأنهما زوجان غير سعيدان فتبدأ بإعطاء النصائح الزوجية لهما.
يستخدم كياروستامى تقنية الحدث الغامض التى يستخدمها العديد من مخرجى العصر الحالى بحيث يكون هناك حدثا ظاهر للمشاهد وحدث آخر مخفى وهذا الحدث الغامض قد يستخدمه المخرج بعد ذلك ليصل به لعملية الكشف أو حل اللغز لكن كياروستامى يصل فى النهاية إلى أن يترك المشاهد ليتخيل هو اين حقيقة الأمر.
فالبطل والبطلة يسيران وهم يلعبان لعبة الزوج والزوجة من خلال تقمص بينوش لدور الزوجة المهملة من زوجها وتقمص شميل دور الزوج الذى يحب أن يعيش فى معزل عن الواقع الأسرى ويجسد الاثنين حالة الضجر الزوجى وبالطبع يخفى دائما المخرج شيئا فهو يدفع بالأحداث بشكل تحليلى حتى يقنع المشاهد فى الربع الأخير من الفيلم أن الأبطال ما هم إلا زوجين حقيقيين يتعاتبان على سنوات الزوجية الماضية وما فيها من أخطاء وقد يوحى للمشاهد أحيانا انهما زوجين بالفعل لكنهما على وشك الانفصال ولهذا السبب نتخيل أنهم أغراب بالفعل فى بداية الفيلم وهذا الرأى يدعمه الكثير من الإيماءات التى تصدر من البطلين فى النصف الثانى من الفيلم وتبدو النقاشات جدية وحقيقية وغير متخيله لدرجة أننى حينما سألت وليم شميل عن ذلك أجابنى بأنه لقوة السيناريو كان يعتقد أحيانا أن بينوش هى زوجته الحقيقة وأنه يوجه لها اللوم على أشياء تحدث بالفعل – والحقيقة أن كلام شميل غير مبالغ فيه فحوار الفيلم يقترب من أغلب المشكلات التى تؤدى للضجر بين أى زوجين فى العالم.
ربما قوة استخدام كياروستامى لتقنية اللغز هذه هى التى تجعل المشاهد يقف أحيانا فى حيرة من أمره ويتساءل هل كان مخطئا فى فهم العلاقة بين البطل والبطلة فى الجزء الأول من الفيلم فهما زوجين على وشك الانفصال والبرود الطبيعى فى علاقتهم يجعلك تتخيل أنهم اغراب أم كان مخطئا فى الجزء الثانى من الفيلم وهم مجرد رجل وامرأة غريبين يلعبان لعبة الزوجة والزوج الذين يعيشون حالة صعبة من الضجر الزوجي.
ولا يقدم كياروستامى حلا فى نهاية الفيلم لهذه المعضلة الدرامية بل ينتهى الفيلم وانت ما زالت لا تعرف طبيعة العلاقة بين البطل والبطلة لكن المؤكد هو تلك المشاعر الجميلة والمرهفة التى يثيرها داخلك كياروستامى وهذا الكم الكبير من الرومانسية الذى سوف يدخل قلبك واحاسيسك من جراء تلك المعالجة الدرامية الجميلة.
وهناك ما يجب أن نقوله بالنسبة لتقنيات كياروستامى فهو يستخدم كما قلنا المعادل الجمالى للآثار والتحف ليعضد فكرته الدرامية كما أن اختياره لاسم الفيلم كان متطابقا مع الحدث التحويرى داخل الفيلم فالأبطال هم اما نسخه طبق الأصل من زوجين حقيقيين أو هما زوجين حقيقيين تحولا لقطع أدمية فقدت جدواها من هنا كان اختيار الاسم مدخلا مهما لأحداث الفيلم وعقدته.
يبقى أن نقول إن النهاية المفتوحة التى ختم بها كياروستامى زادت من حرفية المعالجة وأكدت صعوبة اللغز الدرامى لدى المشاهد.