الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مسافة فى عقل السيسى «1 - 4» عشية 28 يناير

مسافة فى عقل السيسى «1 - 4» عشية 28 يناير






عشية ٢٨ يناير لاحت فوق سماء مصر علامات السقوط، السجون تم اقتحامها والأقسام محترقة ومشاهد المأساة فى كل شوارع مصر، والأعين لا تحيد عن الشاشات والأنفاس محبوسة..  فى هذه الأوقات تحولت مصر الى كتلة من اللهب ألقيت فى وجه المجلس العسكرى آنذاك لا يستطيع أن يمسك بها ولا يمكن أن يتركها، الميادين مملوءة والجميع خرج مدركا لما لا يريد وقليل من كان يدرك ماذا يريد!
 بمرور الوقت تحولت الحالة أشبه الى نزهة ثورية وساعد على ذلك برودة الجو التى غالبا ما تضفى على القاهرة رومانسية مجهولة..  الجميع يقضى أوقاتا تبدو سعيدة ولا أحد يهتم إلى أين ستذهب الدولة المصرية؟
منذ هذه اللحظة بدأت عملية تسليم الدولة الى التنظيم الدولى، وحدها فقط كانت جماعة الإخوان تدرك ما تريد، ومنذ يوم ٢٩ يناير بدأت خطتها للاستيلاء على الحالة الثورية من خلال مسارين متوازيين:
■ الدفع بالرموز الشبابية من غير الإخوان الى الفضائيات المختلفة لصناعة نجومية مؤقتة ساهمت فى اصابتهم بحالة من الاستعلاء الثورى فضلا على استهلاكهم شعبيا.
■ سرعة استيعاب جميع أطياف تيار الإسلام السياسى إلى عباءة الإخوان لاستخدامهم فى الحشد العددى وإحداث الزخم الإعلامى.
لا أحد كان يشغله النزيف الاقتصادى والسياسى والأمنى والإقليمى الذى أخذ خطواته مسرعا ينهش فى جسد الدولة المصرية، الجميع يتحرك بأريحية شديدة ويظهر متفائلا على الشاشات ومؤكدا ان مصر فى اتجاهها الى مستقبل واعد.. دون أن يشرح كيف ومتى ولماذا؟!
 فقط كان هناك رجال فى المجلس العسكرى على موعد مع القدر، من واقع مسئوليتهم الوطنية والرسمية، وسط رجال هذا المجلس كان اللواء «عبدالفتاح السيسى» مديرًا للمخابرات الحربية آنذاك، منصبه يحمله مسئوليات جسيمة ومن شرفة مكتبه وجد نفسه مطلا على وطنه الذى يصارع السقوط، الرجل وجد نفسه فى مواجهة مد ثورى لا يعرف أحد مداه ولا يمكن للمجلس العسكرى أن يقف فى مواجهة الإرادة الشعبية كما لا يمكنه أن يترك وطنه يسقط، من هذه اللحظة بدأ السيسى يسأل نفسه الأسئلة الحتمية المصيرية:
■ كيف يمكن امتصاص الصدمة وأخذ زمام المبادرة للبدء فى إدارة الأزمة ؟
■ كيف يمكن كشف الحقائق الغائبة؟
■ كيف يمكن إيقاف النزيف الذى ينهش جسد الوطن؟
■ كيف يمكن إحداث التوازن بين الإرادة الشعبية ومصالح الوطن العليا ومصيره؟
■ كيف يمكن صيانة سيادة الدولة وحدودها؟
■ كيف سيذكر التاريخ من فشل فى صيانة الأمانة لا قدر الله؟
■ كيف ستكون البداية التى حتما يجب ان تبدأ بترميم فورى لجهاز الشرطة وإعادته إلى الشوارع والميادين الملتهبة؟
الرجل يطيل النظر من شرفة مكتبه والأسئلة تسيطر عليه تماما ومعادن وصلابة الرجال على المحك.
التفكير النظرى لم يستغرق السيسى كثيرًا، ومن موقع مسئوليته كان عليه ان يتحرك سريعا، وإذا استعرضنا المعطيات وقتها سنجد ما يلى:
■ نخبة مغيبة بفتح الياء وفِى نفس الوقت مغيبة بكسر الياء.
■ إعلام بلا أدنى مسئولية وطنية تمكنت جماعة الإخوان من امتطائه تماما.
■ حالة مكايدة غير قادرة على التمييز ما بين إسقاط النظام وإسقاط الدولة بالكامل.
■ حالة استباحة إقليمية للوطن.
■ مطالب ثورية غير رشيدة وصلت الى حد الضغط للإفراج عن القيادات الإرهابية.
■ الفكرة الثورية ذاتها تمارس انشطارا ذاتيا لتنشأ عشرات الائتلافات والأحزاب والكيانات التى تحمل جميعها مصطلحات ثورية.
■ حالة استخدام مبتذل لمن تمت تسميتهم وقتها بشهداء ومصابى الثورة.  
■ حملة ممنهجة تجاه المجلس العسكرى انسحبت على كيان الجيش المصرى بأكمله.
■ يحيط بكل تلك الملابسات تنظيم دولى مدعوم اقليميا ودوليا ومتربص بالوطن تسانده بإدراك وبغير إدراك نخبة تستدرج الشعب المصرى ليقع فريسة التنظيم.
وسط هذه المعطيات شديدة السلبية يفرض السؤال المصيرى نفسه: كيف السبيل إلى الخروج؟
كان السيسى أحدث رجال المجلس العسكرى إلا أن طبيعة منصبه كمدير للمخابرات الحربية فرضت عليه مسئوليات ذات طبيعة خاصة، الرجل وجد نفسه أمام مهام  عاجلة جدا تمثلت فى:
■ الحفاظ على حدود الدولة ورصد محاولات الاختراق الخارجى.
■ المتابعة اليومية لحالة الأمن بالشارع المصرى لحين عودة الشرطة لكامل طاقتها.
■ الرصد اليومى لحالة الانضباط بصفوف القوات المسلحة التى ربما تكون قد تأثرت بحالة السيولة العامة التى تشهدها البلاد.  
■ تقييم حالة التوازن بين القوى التى تطرح نفسها للعمل العام والتى ثبت جميعا فيما بعد أنها استُخدمت من تنظيم الإخوان.
■ التقييم اليومى لقدرة أفرع القوات المسلحة على القيام بدورها المدنى تعويضا عن تعثر الحكومة المدنية وقتها بسبب حالة الفوضى التى ضربت البلاد.
الرجل بدأ الحركة التى كانت ثقيلة وبطيئة إلا أن الرجوع للخلف لم يكن مسموحا به، الحالة تفرض حماية الإرادة الشعبية وعدم فرض الوصاية وإتاحة الفرصة للشعب المصرى لخوض تجربته الثورية كاملة وفِى الطريق تتكشف الحقائق واحدة تلو الأخرى.
منذ بداية الطريق التقى السيسى جميع الأطياف السياسية من جميع التوجهات والأعمار ليبدأ فى تكوين انطباعاته وتحديد اتجاهات الحركة وتفاصيل خطة إنقاذ الوطن، حيث لم يكن هناك مجال للتراجع أو للفشل أو التنصل من المسئولية، وطن فى مهب الريح ومصر ملقاة على قارعة الطريق تنزف، وقتها قرر السيسى مد يده لوطنه يضمد جراحه ويساعده على النهوض.                        
خلال عام ٢٠١١ بأكمله شهدت الدولة المصرية موجات متتالية من الفوضى مصحوبة بزخم إعلامى مهول كان وقتها قادرًا على تصدير مصطلحات وعناوين وجدت طريقها إلى الشارع المصرى سريعا وتم استخدامها بشكل غير رشيد فأحدثت مايمكن أن نسميه بوهم إدارة الدولة عبر الشاشات، وبمرور الوقت كانت الجماعات التى تنسب نفسها للنخبة تتعرض لانكشاف تاريخى لتقدم الدولة والثورة لمكتب الارشاد، وقتها بحث السيسى عن قاعدة ارتكاز مدنية يمكن البناء عليها لإحداث التوازن السياسى إلا أن الرجل لم يجد إلا مجموعات تليفزيونية وأخرى مستخدمة تمامًا من الإخوان وثالثة ليس لها أى تأثير أو وجود فعلى، وفِى هذا التوقيت أدرك تماما ما ستؤول إليه الأمور ولم يكن أمامه إلا إعادة فكرة دولة القانون القائمة على الاحتكام المباشر للإرادة الشعبية وإن لم تكن مصحوبة بوعى كامل، لم يكن أمامه إلا حماية التجربة بآمالها وآلامها، وصولا إلى إعلان النتيجة بفوز المرشح محمد مرسى العياط، لتدخل الدولة مرحلة أكثر تعقيدا، حيث لا يمكن التخلى عن المسئولية كما لا يمكن إلا استخدام الوسائل القانونية المتاحة، الرجل على موعد مع القدر فى مرحلة شديدة التعقيد.
أتذكر أنه خلال عام ٢٠١١ لم يتعرض السيسى للظهور العام المباشر، منصبه وقتها لم يسمح بذلك كما أن التزامه بالمعايير المؤسسية يفرض عليه ذلك، طوال هذا العام يكاد الرجل يكون لم يغادر مكتبه، لا يشغله إلا امتصاص الصدمة بأقل قدر من الخسائر، لا يشغله إلا إيقاف استباحة الدولة ممن يعتقدون أنها حالة يمكن أن تستمر.
الرجل منذ توليه منصب مدير المخابرات الحربية وعينه لم تغب عن حالة التربص بوطنه، كما لم يغب عنه ما يدور على أرض وطنه وما الذى يمكن أن يؤدى إليه، لكنك فى هذه المناصب لا تمارس عملا سياسيا بل عملا معلوماتيا استخباراتيا يقوم على الرصد المستمر للمعلومات وعرضها بأمانة، الى جانب تقديرات المواقف الاستراتيجية التى تقدم بشكل دورى، تذكر فى هذه المناصب لا تمارس السياسة إنما تقدم المعلومات الدقيقة لمن يمارس السياسة دون فرض وصاية على كيفية استخدامه لها.
خلال هذا العام انساقت النخبة المستخدمة كليا من التنظيم الإخوانى إلى ترديد الهتاف المقيت الذى يطالب بإسقاط ما يسمى بـ«حكم العسكر» وفِى الوقت نفسه راحوا يجلدون المجلس العسكرى المكلف بإدارة البلاد مؤقتا ويعيبون قلة خبرته السياسية ليكشفوا بأنفسهم وهم الأكذوبة الشهيرة بوجود ما يسمى بـ«حكم العسكر» فكيف يكون ذلك ورموزه لا يملكون اى خبرة وفق ما تردد هذه النخبة المدعومة بميليشيات إعلامية إخوانية؟!
الهتاف المقيت فرض حالة إعلامية مصطنعة لم يكن هدفها إلا الضعط على أعصاب المجلس العسكرى للتسريع فى عملية تسليم البلاد للتنظيم الدولى، وهو الأمر الذى فرض على السيسى تحديا جديدا لإفشال محاولات استدراج الجيش لميدان العمل السياسى.
التحدى الجديد فرض نفسه حينها على الرجل الذى وجد نفسه فى مواجهة حتمية للإجابة عن السؤال الملح: كيف يتم التعامل مع الأزمة دون التورط سياسيا؟ كيف يتم إفشال محاولات استنزاف رصيد القوات المسلحة فى وجدان الشعب المصرى؟!
 هكذا كانت الأفكار تحاصر عبدالفتاح السيسى الذى وجد نفسه أمام مهمة تاريخية لإنقاذ وطن بحجم وقيمة مصر.
كان عام ٢٠١١ عصيبا على الرجل كما كان عصيبا على كل مصرى شريف، صاحب المنصب الرفيع لم تغفل له عين، لا يكاد يتوقف عن التفكير فى مصير وطن يعرف هو حجمه ومكانته، لكن الأدوات المتاحة محدودة وإمكانية المناورة شديدة الخطورة، وتنظيم الإخوان سيطر على المشهد تماما وإشارة البدء أطلقها مبعوث التنظيم الدولى يوسف القرضاوى مِن أعلى منصة ميدان التحرير فيما وصفه المصريون بجمعة قندهار.
 خلال هذا العام كان أن انتشرت صور عديدة له بمن وصفوا برموز الثورة والتى حاول البعض استخدامها ضده فيما بعد انكشاف بعض هذه الرموز، لكن هل يجرؤ أحد منهم أن يخبرنا ماذا قال السيسى خلال اللقاءات؟ مما حذر وبأى قدر تحقق ما حذر منه الرجل؟
هل يستطيع الهارب أبوإسحق الحوينى أن ينكر نصيحة السيسى بأن التيار الإسلامى غير مؤهل للحكم بعد وأن الشارع لن يقبله، هل يستطيع؟!
خلال عام بأكمله والسيسى يبحث عن قاعدة التوازن المدنية التى للأسف ثبت أنها درب من خيال، لكن قاعدة الارتكاز على الشعب المصرى العاشق لوطنه بإدراك أو بالفطرة أو بالغريزة ثبت أنها القاعدة الذهبية التى أدركها الرجل مبكرًا.