صفوان الأكاديمى وغواية الرواية
ود.حامد أبوأحمد، أحد الأسماء النقدية الكبيرة فى عالم النقد الأدبى والأدب المقارن بين اللغة العربية واللغة الإسبانية، تدرج فى العمل الأكاديمى الإدارى حتى وصل لوظيفة عميد كلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر، فضلا عن كونه نقابى مهم بمجلس إدارة اتحاد كتاب مصر لعدة دورات، ورغم السجل النقدى والإدارى والنقابى الذى من الممكن أن يكفيه، إلا أن مكان الرواية ظل بقلبه لا يشغله شيء سواه، فصدر له عن دار الهلال عام 2014 رواية «فقراء المثل الأعلى» وقد أخذت الرواية من السيرة الذاتية للكاتب فى مرحلة الطفولة بقريته وبداية مراحل التعليم بمدينة طنطا، ورصدت رحلة الكفاح التى عاشها الكاتب ليشق طريقه فى عالم أفضل، يرى أن التعليم هواللبنة الأولى للوصول لهدفه الكبير، وقد تحقق له ذلك بناء على نصيحة والده البسيط، كاتب ماكينة الطحين، الذى كان يمتلك من الخبرة الحياتية الكثير، فوضع ابنه على بداية الطريق الصحيح، ويتلقف الابن النصيحة ويواصل تعليمه ليكون دائما الأول فى كل مراحل التعليم.
وتبدأ رواية د.حامد أبوأحمد الثانية «صفوان الأكاديمى» مرحلة أخرى فى حياة الطفل حماد بطل رواية «فقراء المثل الأعلى» والذى صار شابا فى روايته الجديدة، هذا الطفل/الشاب الذى لم ير إلا التعليم ليكون الطريق الوحيد للخلاص من حياة الفقر والجهل الذى يطحن الجميع فى القرى المصرية، ويواصل كفاحه فى مدينة القاهرة، ثم ينتقل إلى باريس ومنها للعمل فى مدينة الرياض فى السعودية بعد أن حصل على الدكتوراه فى اللغة العربية، ويكشف لنا الروائى حامد أبوأحمد جزءا من معاناته فى القرية وطنطا والقاهرة، وعمله بعدة أماكن ومواقع قبل أن يحصل على شهادته الكبرى ويعين بالجامعة، فنراه يمارس الدروس الخصوصية ويعمل بمدارس خاصة مستغلة ويتعرض لمواقف ليست إنسانية دون أن يمنعه ذلك من أن يواصل الكفاح، وأرى أن الروايتين يأخذان من نبع واحد ويواصلان رصد إنسان مصرى كان إيمانه بالعلم بلا حدود ولا يرى إلا هو السبيل الوحيد لذلك.
ويبدأ الكاتب روايته من مصر الجديدة، قمة الواقع الاجتماعى المصرى الذى يحلم به العديد ممن يعيشون فى الأحياء العشوائية، وكأنه يريد أن يؤكد أن بطل الرواية قد أرتقى السلم الاجتماعى بفضل علمه ومجهوده الذى بذله طوال سنوات الدراسة والغربة عن قريته ووطنه حتى حقق تلك المكانة الكبيرة التى يحلم بها العشرات من أبناء قريته ووطنه، وكأن الكاتب كان يكمل نبوءة والده فى روايته «صفوان الأكاديمى» الصادرة عن دار الحضارة فى 2017، وتلعب المرأة فى الرواية دورا كبيرا فى تحريك الأحداث للأمام، فهى البداية حين كانت البنت/ كوثر بنت الأكابر فى القرية المصرية، البنت التى كانت فى حاجة للتقوية فى دروس النحو والصرف حتى تجتاز شهادة الدبلوم الفني، ورغم الحب الكبير المتبادل بينهما إلا أن العلاقة تنتهى بين الأستاذ والتلميذة بعد الامتحان، رغم أن تلك العلاقة كانت مرشحة أن تتواصل، فقد كانت أول علاقة حقيقية له مع امرأة، لم ينكر بالطبع أنه تجاوب معها، ولكنه كان يفكر فى شيء آخر، يفكر أن تتواصل حياته مع فتاة أخرى متعلمة تعليما جامعيا تساعده حتى ينطلقان إلى حياة أفضل وأحسن، فيؤكد: «لم يبق من هذا الحب المتوهج بين صفوان وكوثر إلا هذه الذكريات التى مازالت تقتحم عليه عالمه إلى الآن، فيسأل نفسه: ترى هل قصرت فى حق كوثر أم هى التى قصرت فى حقي؟»، يواصل صفوان الحياة فى القاهرة ويقابل فتاة أخري، يتوهم أنها ربما تكون الحب الذى يريده، وكانت أختا لفتاة يعطيها دروسا خصوصية فى الثانوية العامة، ولكن العلاقة تنتهى بعد أن ينتهى من تدريس اللغة العربية فى الثانوية، والأمر هذه المرة يأتى من الفتاة التى لم يذكر اسمها، ولم يعرفه حتى الآن كما قرر، ولكن شيئا ما ربط بينهما، فيقول: «أحسست أن عينيها تريدان أن تقولا شيئا، وغمرنى شعور بأنها ودت لومدت حبلا من نغم، لكن عقبة من المستحيل وقفت دون ذلك،قلت لها:سعيد بمعرفتك، فردت فى وصوت مفعم بالعقبات: ربما نراك مرة أخرى».
ويواصل صفوان كفاحه فى الحياة ويتزوج زواجا تقليديا من صفاء البطران، الطبيبة النفسية، الجميلة إلى حد ما، والتى تعامل معها مثلما يتعامل اثنان تقابلا وسوف يتزوجان بطريقة تقليدية بعد لقاء تعارف وخطوبة وحذر ومخاوف من عدم اكتمال المشروع، لكنها رغم ملاءمة المشروع ونجاحه، ظلت غير مقنعة وبداخله شيء يبحث عن حب ضاع منه ربما فى الفتاتين التى ضاعا منه لأسباب فظل يبحث عن عوض عنهما حتى وجده فى إحدى طالباته فى الجامعة، وهنا ظهرت سناء المهدى البنت التى أدهشته بجرأتها، حين عبرت عن مشاعرها فى ورقة الإجابة، وأفاضت فى ذلك دون أن تحسب حسابا لذلك، ودون أن تخاف من رد الفعل الذى قد يأتى على غير هواها، ولكن الأمور تسير بعد ذلك فى طريقها المرسوم ويتعرف عليها فى بداية العام الدراسى ويوافق والدها على زواجها منه فى شبين الكوم ويلتقى معها يومين فقط، ويعبر الروائى عن حالة العشق التى سيطرت عليه فى كل المواقف التى قابلته فى علاقته مع المرأة شعرا من خلال ثقافته الواسعة والموسوعية عن الأدب العربى حتى أنه يختم الرواية بأشعار عمر بن أبى ربيعة التى تعبر عن حالة العشق الدائمة لسناء المهدى التى أحبها من كل قلبه، فى الوقت الذى ظل فيه محترما لعلاقته التقليدية لزوجته الأولى صفاء البطران، وكانت تلك هى الحيلة الروائية المدهشة التى استطاعت أن تأخذ بيد الرواية حتى النهاية، وكانت فى الحقيقة طريقة جيدة استخدمها الكاتب ليعبر عن رؤيته.
وفى النهاية، سيجد القارئ لرواية صفوان الأكاديمى متعة ثقافية عربية أصيلة بثها الروائى حامد أبوأحمد بهدوء وسلاسة من خلال أحداث الرواية وصفحاتها التى زادت على 400 صفحة من القطع المتوسط، والتى أعتقد أنها من أهم ما ستضيفه الرواية للقارئ الذى يريد أن يخرج بشىء أكثر من مجرد حكاية وبعض مشاعر تأثر بها هنا أو هناك.